في ضوء التطورات الأخيرة المتعلقة بالحصار المفروض على غزة، يتجلى بوضوح استخدام إسرائيل والولايات المتحدة للمساعدات الإنسانية كسلاح سياسي وأداة ضغط استراتيجي في سياق الصراع الدائر. يُعد هذا الاستخدام من أخطر أوجه التلاعب الإنساني، لما له من تداعيات كارثية مباشرة على حياة ملايين المدنيين العُزّل.
ترتكز الخطة التي تروج لها إسرائيل وبدعم من الولايات المتحدة على إعادة هندسة آلية توزيع المساعدات بحيث تُقصى المنظمات الأممية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، لصالح آلية جديدة خاضعة لتصورات أمنية وسياسية لا إنسانية. عبر هذه الخطوة، تحاول إسرائيل أن تفرض رقابة أمنية صارمة، وتهيمن على التدفق الإنساني وتعيد تشكيل الخريطة السكانية في القطاع عبر ما يُشبه إعادة تموضع قسري للسكان، من خلال إجبارهم على التوجه إلى مراكز توزيع محددة، لا تشمل مناطق شمال غزة، ما يُكرّس واقع النزوح القسري ويخدم أهدافاً عسكرية واضحة.
تحذيرات منظمات أممية وحقوقية
تبرير هذا النهج بادعاءات مثل “سرقة المساعدات من قبل حماس” – رغم غياب الأدلة – لا يبدو إلا ذريعة لتبرير حرمان جماعي للمدنيين الفلسطينيين من احتياجاتهم الأساسية. إسرائيل بهذا تُنحي جانباً المفهوم الأساسي للمساعدات الإنسانية كحق غير قابل للمساومة، وتحوّله إلى أداة للإخضاع الجماعي. أما الدور الأميركي، الذي يُفترض أن يكون راعياً للشرعية الدولية، فقد انقلب إلى شريك مباشر في هذه الآلية عبر دعم مؤسسة جديدة – “مؤسسة غزة الإنسانية” – تتكوّن من متعاقدين أمنيين ومسؤولين سابقين، مما يُفرغ العمل الإنساني من محتواه ويحوّله إلى قطاع شبه عسكري يُدار بأجندات جيوسياسية.
أما عن تحذيرات المنظمات الأممية والحقوقية، فهي تمثّل محاولة ضرورية وإن كانت محدودة التأثير. رفض الأمم المتحدة واليونيسف لهذا النظام الجديد، ووصفه بـ”تسليح المساعدات”، يُسلّط الضوء على الانقسام العميق بين المبادئ الإنسانية المعترف بها دولياً وبين السلوك العملي للدول المتورطة في الصراع. لكن هذه التحذيرات حتى اللحظة لم تُجبر إسرائيل أو الولايات المتحدة على التراجع، ويرجع ذلك إلى غياب أدوات الردع الدولية الفعالة، وسط انقسام سياسي عالمي وشلل في مجلس الأمن.
إجراءات عملية
ما يجب اتخاذه يتجاوز مجرد الإدانة أو التحذير. هناك حاجة ملحة لإجراءات عملية، منها:
– تفعيل آليات دولية ملزمة لإجبار إسرائيل على الالتزام بالقانون الدولي الإنساني، بما يشمل إنهاء الحصار فوراً والسماح بوصول المساعدات دون قيد أو شرط.
– إطلاق لجنة تحقيق مستقلة للتحقيق في جرائم التجويع المحتملة، باعتبارها جريمة حرب.
– تعزيز دور محكمة الجنايات الدولية لمحاسبة المسؤولين عن انتهاك حقوق المدنيين، وخاصة في ما يتعلق بسياسات العقاب الجماعي.
– زيادة الضغوط من الدول غير المنخرطة في الصراع من خلال سحب الدعم السياسي أو العسكري من إسرائيل إذا لم تلتزم بوقف استخدام المساعدات كسلاح.
– تمكين المنظمات الإنسانية المستقلة من العمل بحرية وبضمانات أمنية واضحة، بعيداً عن هيمنة الأنظمة العسكرية أو السياسية.
ما يجري في غزة ليس فقط مأساة إنسانية، بل اختبار قاسٍ لمصداقية النظام الدولي وقدرته على حماية القانون والحقوق الأساسية في ظل واقع الصراع وتوازنات القوة. وإذا لم يتم التحرك دولياً الآن، فإن استخدام سلاح التجويع قد يتحول إلى سابقة خطيرة تُبرر مستقبلاً في صراعات أخرى حول العالم.