ما جرى في “مسيرة الأعلام” الأخيرة في القدس لم يكن مجرد عرض سياسي قومي كما تحاول إسرائيل تسويقه للعالم، بل كان تجليًا عاريًا لصعود موجة تطرف غير مسبوقة في المجتمع الإسرائيلي، وصلت إلى حدود تمجيد القتل واحتفاء علني بالإبادة الجماعية، ليس فقط كشعارات، بل كهوية جمعية تتغذى على العنف وتشرعنه تحت مظلة الدولة.
بن غفير يعمق التطرف في القدس
الصور التي نقلتها صحيفة هآرتس الإسرائيلية في افتتاحيتها، والتي وصفت المسيرة بـ”الاحتفال العلني بالإبادة”، لم تأتِ من فراغ. فحين يهتف الآلاف، بينهم مراهقون وطلاب مدارس دينية، بعبارات مثل “لا مدارس في غزة، لا أطفال هناك”، فهم لا يعبرون فقط عن عنصرية بغيضة، بل يعيدون تعريف العلاقة مع الفلسطيني بوصفه “غير موجود” أصلاً، ويحتفون بـ”إزالته” من المعادلة – جسدياً وثقافياً. هذه ليست زلة لسان، بل فكر متجذر يجد أرضاً خصبة في بيئة سياسية تروّج له وترعاه.
حضور وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير في مقدمة المسيرة، وتعامله مع المشهد وكأنه نصر سياسي، يبرز إلى أي مدى بات التطرف هو الموقف الرسمي. بن غفير، الذي كان قبل سنوات مجرد ناشط يميني متطرف يُحاكم على التحريض، أصبح اليوم مسؤولاً عن الشرطة التي تؤمن مثل هذه الفعاليات، بل يشارك بها باعتباره راعياً سياسياً لها. هذا لا يعكس فقط تغيراً في بنية السلطة الإسرائيلية، بل انزلاقاً أخلاقياً حاداً جعل من العنف قيمة مركزية في الهوية السياسية.
المستطنون يحتفلون بموت أطفال غزة
المؤسسة الإسرائيلية لم تعد تكتفي بارتكاب المجازر في غزة، بل تصر على إعادة تصديرها داخلياً كأدوات فخر قومي. في السابق، كانت إسرائيل تحاول أن تغلّف عنفها بمصطلحات دفاعية – “أضرار جانبية”، “أخطاء عملياتية”، “عمليات دقيقة”. أما الآن، فالموت الجماعي، وخاصة للأطفال، بات جزءاً من رواية النصر. وهذا الانتقال من الإنكار إلى الاحتفال هو مؤشر بالغ الخطورة على طبيعة التحول داخل المجتمع الإسرائيلي، الذي لم يعد يرى في العنف تجاوزاً، بل حقاً مشروعاً، بل وربما طقساً وطنياً.
التحول الأخطر هو أن هذا التطرف لم يعد حبيس النخب المتطرفة أو الأوساط الدينية المتشددة، بل أصبح شعبياً. مراهقون يرتدون قمصاناً كتب عليها “بدون النكبة لا يوجد نصر”، ومواطنون عاديون يرددون أنشودة موت الأطفال كجزء من الاحتفال، ومسؤولون حكوميون يشرفون على هذا كله بتمويل رسمي. هذا لا يعكس فقط تطرف سياسة الدولة، بل انحدار الضمير الجماعي لمجتمع بأكمله.
ما يثير القلق هو أن هذه النزعة تجد تبريراً دائمًا في الخوف، أو في فكرة “التهديد الوجودي” التي يُعاد إنتاجها باستمرار داخل إسرائيل، لتبرير كل أشكال الوحشية والعنصرية. لكن هذا التبرير لا يصمد أمام الحقيقة: إسرائيل اليوم تحكم شعباً آخر، بالقوة، وتقمعه منذ عقود، والآن تتحول من دولة احتلال إلى دولة تفخر بالاحتلال، بل وتسعى لإعادة إنتاجه على شكل “نكبة جديدة”.
عواقب كارثية على فلسطين والمنطقة
المعارضة، كما مثّلها يائير غولان، تحاول إطلاق نداءات ضمير، لكن ردود الفعل على كلماته تُظهر أن الخطاب الأخلاقي بات مكشوف الظهر، بل مستهدفاً بحد ذاته، وكأن القول بأن “الدولة العاقلة لا تقتل الأطفال كهواية” أصبح اتهاماً بالخيانة.
في هذا السياق، إسرائيل لا تواجه فقط أزمة سياسية، بل أزمة هوية. لم تعد الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، كما تحب أن تصف نفسها، بل أصبحت بعيون كثيرين دولة فاشية معادية للإنسانية، تُغذيها أيديولوجيا قومية دينية ترى في الآخر عدواً وجودياً لا مكان له.
هذه ليست مظاهر عابرة، بل مسار اجتماعي–سياسي متسارع، ستكون له عواقب كارثية ليس فقط على الفلسطينيين، بل على مستقبل المنطقة ككل. مجتمع يُربّى على أن الإبادة فخر، وأن التطهير هدف سياسي مشروع، لا يُنتج سلاماً، بل دورة لا تنتهي من العنف.