في ظل حالة من الاحتقان الأمني والسياسي، شهدت العاصمة الليبية طرابلس في الأيام الأخيرة تجددًا للاشتباكات المسلحة بين فصائل محلية، في مشهد يعيد إلى الأذهان صور الفوضى والانقسام التي لم تغادر البلاد منذ إسقاط نظام معمر القذافي عام 2011. ورغم توقف الاشتباكات مؤقتًا، إلا أن الدلالات السياسية والعسكرية التي حملتها التطورات الأخيرة تشير إلى أن ليبيا تبتعد يومًا بعد يوم عن أفق الحل السياسي، وتقترب أكثر من سيناريو الانهيار الكامل الذي طالما حذر منه المراقبون.
في تقرير موسع نشرته صحيفة إزفيستيا الروسية، تناول الباحث في معهد الدراسات الشرقية التابع لأكاديمية العلوم الروسية، غريغوري لوكيانوف، خلفيات الاشتباكات الأخيرة في طرابلس، معتبرًا أنها لم تكن صدامات عشوائية، بل عملية منظمة تهدف إلى إعادة هيكلة المشهد الأمني لصالح حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبد الحميد الدبيبة. ومع أن الطابع الفوضوي سيطر على سير الاشتباكات، فإن النتائج الميدانية تميل لصالح فصيل محدد ضمن شبكة التحالفات التي تستند إليها الحكومة المعترف بها دوليًا.
هذا التفسير ينسجم مع معطيات ميدانية أفادت بوجود تحركات مسبقة وتموضع استراتيجي لبعض الوحدات الأمنية، ما يعكس أن ما حدث لم يكن مجرد تصعيد عرضي، بل ترجمة لتغير في موازين القوى بين مكونات المشهد العسكري الهش في العاصمة. لكن في المقابل، يثير هذا النوع من “إعادة الترتيب بالقوة” مخاوف حقيقية من انفجار أوسع يعمّق الانقسام، ويغذي رغبة بعض الأطراف المهمشة في التمرد أو البحث عن دعم إقليمي يكرّس الانقسام بدل تجاوزه.
وما يزيد من تعقيد المشهد هو الانسداد شبه الكامل في المسار السياسي، حيث لا تزال المبادرات الأممية والإقليمية تراوح مكانها، في ظل انعدام الثقة بين الفرقاء، وانشغال القوى الدولية بأولويات أخرى. وفي حين تستمر حكومة الدبيبة في تثبيت موقعها داخل طرابلس، فإن حكومة موازية بقيادة فتحي باشاغا، بدعم من البرلمان في الشرق، ما تزال تنشط على جبهة موازية، مما يخلق وضعًا مزدوجًا للسلطة يُضعف أي أفق لتوحيد مؤسسات الدولة.
هذا الفراغ السياسي والأمني يوفر بيئة خصبة لتحوّل ليبيا إلى ساحة تصفية حسابات إقليمية ودولية، تتقاطع فيها مصالح متعارضة، سواء في مجالات الطاقة أو النفوذ الجيوسياسي أو السيطرة على الموانئ والمعابر. ولا تخفي بعض الأطراف الدولية رغبتها في تثبيت موطئ قدم دائم في ليبيا، مستفيدة من حالة الضعف المؤسساتي وغياب توافق داخلي جامع.
ويبدو أن الحديث عن انتخابات وطنية أو تسوية شاملة بات يفتقر إلى أي أرضية واقعية في ظل هذا التصعيد، خاصة وأن المجتمع الدولي لم يعد يُظهر الجدية ذاتها التي عبّر عنها في أعقاب مؤتمر برلين أو مبادرة جنيف. أما الأطراف المحلية، فقد استأنست بلغة السلاح والتحالفات الظرفية، مما يجعل أي محاولة لفرض حل من خارج الميدان أمرًا في غاية الصعوبة.
ومع تصاعد هذا المسار القلق، بدأت المقارنات تُثار علنًا بين الوضع الليبي وما آلت إليه الأوضاع في الصومال خلال العقود الماضية. فكلا البلدين شهدا انهيارًا مركزيًا لمؤسسات الدولة، وتشظيًا للسلطة بين قوى متنازعة، وتدخلات إقليمية ذات طابع أمني واقتصادي. وإذا ما استمرت ليبيا على هذا المسار، فإن خطر “الصوملة” لن يبقى محض تخوفات نظرية، بل واقعًا ملموسًا على الأرض، مع ما يعنيه ذلك من تبعات كارثية على السلم الإقليمي، وعلى شعوب المنطقة المتوسطية جنوبًا وشمالًا.
ورغم قتامة المشهد، فإن الحل السياسي لا يزال ممكنًا من حيث المبدأ، شريطة وجود إرادة دولية صادقة تدعم عملية شاملة وعادلة لتوحيد المؤسسات، وممارسة ضغوط فعلية على الأطراف المسلحة للانخراط في العملية السياسية بدل فرض الوقائع بالقوة. لكن مع غياب هذه الإرادة، يظل الوضع الليبي مرشحًا للمزيد من التدهور، في وقت لا يمكن فيه الرهان على استقرار هش في بيئة يغيب فيها الحد الأدنى من التوافق الوطني.