أعلنت جماعة الحوثي في صنعاء، في خطوة وصفت بـ”الاستفزازية”، عن بدء تداول عملة معدنية من فئة 50 ريالاً يمنياً، ابتداءً من الأحد، بذريعة مواجهة تآكل الأوراق النقدية.
الخطوة أعادت إلى الأذهان أزمة سابقة عام 2024، حين أقدمت الجماعة ذاتها على سك عملة معدنية من فئة 100 ريال، ما فجّر آنذاك توتراً حاداً مع الحكومة الشرعية كاد أن يتطور إلى تصعيد عسكري لولا تدخل المبعوث الأممي هانس غروندبرغ.
وبينما تزعم الجماعة أن هذه الخطوة تهدف إلى “تحسين جودة النقد المتداول”، يرى خبراء أنها محاولة مكشوفة لتثبيت مركز مالي مستقل في صنعاء، منفصل عن عدن، ما يزيد من تعقيد المشهد الاقتصادي ويقوّض أي تفاهمات دولية بشأن وحدة المؤسسات النقدية.
مساعٍ حوثية لفصل نقدي واقتصادي تام
في الوقت الذي تنهار فيه العملة الوطنية بشكل متسارع، وتعمّ الأسواق حالة من الفوضى، جاءت الخطوة الحوثية لتعزز الانقسام المالي بين صنعاء وعدن، خاصة أن الجماعة لا تعترف بالطبعات النقدية الجديدة الصادرة عن البنك المركزي في العاصمة المؤقتة.
“إنها ليست خطوة إدارية لمعالجة التَلف، بل قرار مدروس لفرض واقع نقدي منفصل”، هكذا قال فارس النجار، المحلل الاقتصادي اليمني، مضيفاً أن “الجماعة تسعى لتكريس انقسام طويل الأمد في المؤسسات النقدية والمالية، الأمر الذي يجعل البلاد أمام مركزين ماليين ونظامين نقديين متنافرين”.
البنك المركزي في عدن يلوذ بالصمت
لم يصدر أي تعليق رسمي حتى الآن من البنك المركزي اليمني في عدن، لكن مصادر مصرفية تحدثت لـ”الشرق الأوسط” عن حالة “ترقّب وغضب مكتوم”، وسط مخاوف من اتخاذ خطوات مقابلة قد تزيد من تشظي النظام المالي في البلاد.
ويحذر الخبراء من أن التساهل مع هكذا خطوات “يفتح الباب أمام تعدد العملات داخل البلد الواحد، ما سيؤدي حتماً إلى انهيار الثقة الكاملة بالعملة الوطنية، ويهدد بشكل مباشر بقاء أي مسار تفاوضي اقتصادي برعاية دولية”.
رسالة سياسية خلف العملة المعدنية
تسعى الجماعة الحوثية من خلال هذه الخطوة إلى إرسال رسالة سياسية مزدوجة: الأولى تتعلق بفرض سلطتها المالية كأمر واقع في مناطق سيطرتها، والثانية بمواجهة الضغوط الدولية التي دعت إلى تجميد أي خطوات أحادية تؤثر على الملف الاقتصادي.
ورغم تصريحاتها بأن العملة الجديدة “لن تؤثر على الكتلة النقدية أو أسعار الصرف”، إلا أن الواقع يؤكد أن السوق يعيش أصلاً حالة اضطراب شديد، إذ يبلغ سعر الدولار في مناطق الحوثيين 535 ريالاً، مقابل 2900 ريال في مناطق الشرعية، ما يكشف عن سوقين ماليين منفصلين كلياً.
الأمم المتحدة بين الحياد والمراوحة
أعاد مراقبون التذكير ببيان المبعوث الأممي هانس غروندبرغ الصادر في يوليو 2024، والذي دعا فيه إلى تجميد كل الإجراءات المالية الأحادية بين الطرفين، ووقف أي خطوات تزيد من الانقسام، محذراً من أن “الاقتصاد لا يحتمل مزيداً من التسييس”.
لكن يبدو أن الحوثيين لم يلتزموا بتلك الدعوات، واستمروا في اتخاذ قرارات أحادية، من بينها سك عملة، وفرض نظام مصرفي خاص، وفرض قيود على التحويلات من وإلى مناطق سيطرتهم.
هل نحن أمام انهيار شامل؟
تحذيرات متزايدة يطلقها الاقتصاديون، ليس فقط بشأن سك العملات، بل حول تآكل قدرة الدولة على السيطرة على النظام النقدي، وسط تراجع ثقة المواطنين في العملة المحلية، وارتفاع موجات التضخم، وتآكل القوة الشرائية.
“لا يمكن لبلد أن يستمر بهذا الشكل… مركزان ماليان منفصلان يعنيان أن الدولة انتهت فعلياً كنظام اقتصادي موحد”، هكذا قال فارس النجار، مضيفاً أن الحل الوحيد يبدأ بإنهاء هذا الانقسام من جذوره، وليس إدارة نتائجه.
ويبدو أن سك العملة المعدنية الجديدة، أصبحت إجراءً فنياً لمعالجة مشكلات نقدية، لكنه في عمقه تجسيد حي للانقسام السياسي والمؤسسي في اليمن.
وفي غياب موقف حازم من المجتمع الدولي، وتراخي الحكومة في عدن، تمضي الجماعة في فرض “اقتصاد موازٍ”، قد يكون قريباً أخطر من الحرب العسكرية نفسها.