تستمر آلة الحرب الإسرائيلية في حصد أرواح المدنيين في قطاع غزة، فيما يزداد المشهد تعقيدًا في ظل تصلب المواقف السياسية وتضارب أولويات الأطراف المعنية، وسط أزمة إنسانية خانقة تتفاقم يومًا بعد آخر. وقد شهد يوم الخميس تصعيدًا غير مسبوق، مع شنّ قوات الاحتلال سلسلة غارات عنيفة على مناطق متعددة من القطاع المحاصر، أودت بحياة 127 فلسطينيًا، بينهم عدد كبير من النساء والأطفال، في مشهد يعكس مدى عمق الكارثة الإنسانية واستعصاء الحلول السياسية.
شلال دماء لا يتوقف
تتنقل آلة الحرب الإسرائيلية من رفح إلى الشجاعية، ومن مخيم جباليا إلى خيام النازحين في دير البلح، دون تفرقة بين هدف عسكري أو مدني، في وقت تشير فيه وسائل إعلام فلسطينية إلى أن الغارات الأخيرة استهدفت بشكل مباشر منازل المدنيين وتجمعات نازحين سبق أن أُجبروا على الفرار من مناطقهم. وتزامن ذلك مع استمرار انقطاع الكهرباء والمياه، ونفاد شبه كامل للمواد الغذائية والمستلزمات الطبية، ما يجعل القطاع على شفا انهيار شامل.
أميركا بين الضغط والإنكار
وفي خضم هذه التطورات، أبدى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو انزعاجه من تفاقم الوضع الإنساني، في تصريحات أدلى بها من أنطاليا التركية على هامش قمة وزراء خارجية حلف “ناتو”، مشددًا على أن بلاده “ليست غير مكترثة بمعاناة سكان غزة”. لكن هذا التصريح بدا فاقدًا للتأثير الملموس، في ظل غياب خطوات عملية أميركية للضغط على إسرائيل من أجل فتح المعابر أو السماح بدخول المساعدات.
ورغم أن روبيو أجرى اتصالًا برئيس حكومة الاحتلال بنيامين نتنياهو، إلا أن المعطيات تشير إلى أن الموقف الأميركي لم يرتقِ إلى حد فرض إجراءات لوقف الحرب، وهو ما يبقي الدور الأميركي في خانة المراقبة المترددة، لا الوسيط الفاعل.
مبادرة “حماس” تُقابل بالتجاهل
من جهتها، أعلنت حركة “حماس” أنها سلّمت مبادرة جديدة تتضمن بادرة حسن نية تمثلت بالإفراج عن الجندي الأسير عيدان ألكسندر، بالتزامن مع زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب المرتقبة إلى المنطقة. ورغم ما اعتبرته الحركة “خطوة لبناء الثقة” في مفاوضات التهدئة، إلا أن رد الاحتلال جاء بتجاهل المقترح الأميركي الذي عرضه المبعوث ستيف ويتكوف، والذي يتضمن خطة شاملة لإعادة المحتجزين الإسرائيليين مقابل ترتيبات سياسية تشمل خروج “حماس” من الحكم في غزة.
مراوحة سياسية وخيارات تنفد
الرفض الإسرائيلي للمقترح الأميركي، رغم ما وصفته القناة 12 العبرية بـ”الإشارات الإيجابية من حركة حماس والوسطاء”، يكشف عن تمسك نتنياهو بخيار الحسم العسكري، ولو على حساب انهيار إنساني تام في القطاع، أو انفجار إقليمي. هذا التعنت يزيد من صعوبة مهمة الوسطاء الإقليميين والدوليين، ويفتح الباب أمام تساؤلات جدية حول مآلات المرحلة القادمة، خاصة في ظل الانقسام داخل حكومة الاحتلال، والضغوط الداخلية التي تواجهها “حماس” في غزة.
في المحصلة، يبدو أن الوضع في غزة يدخل مرحلة أكثر دموية، حيث تتقلص إمكانات التهدئة مع تصاعد الغارات وغياب الحلول الواقعية، وسط تجاهل شبه تام لأصوات الضحايا ومعاناة الملايين من المدنيين العالقين تحت النار والحصار. وبينما تتحدث الدبلوماسية عن “خطط سلام” و”تفاهمات”، يواصل سكان القطاع دفن أبنائهم تحت الركام، في صمت عالمي يثير الأسى والريبة على حدّ سواء.