نشرت صحيفة وول ستريت جورنال تقريرًا يطرح سؤالًا بالغ الحساسية: هل بدأ لبنان فعلًا بتفكيك “حزب الله”؟ تقرير أعده عمر عبد الباقي وآدم شمس الدين، كشف أن الجيش اللبناني، وبدعم من معلومات استخباراتية إسرائيلية نُقلت عبر قنوات أمريكية، نجح في إحراز تقدم “غير متوقع” في جنوب لبنان، حيث معاقل الحزب التقليدية، وهي منطقة لطالما عُدّت محرّمة على الدولة اللبنانية منذ ما بعد انسحاب الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000.
لكن ما بين العنوان العريض الذي يشي بمرحلة جديدة، والوقائع المعقدة على الأرض، يظل السؤال معلقًا: هل نحن أمام بداية فعلية لنزع سلاح “حزب الله”، أم أن ما جرى ليس إلا ترتيبًا ظرفيًا يهدف إلى كسب الوقت واحتواء التصعيد مع إسرائيل بعد حرب غير معلنة استمرت لشهور على الحدود الجنوبية؟
دور استخباراتي إسرائيلي… وتعاون لبناني محدود
يشير التقرير إلى أن المعلومات الاستخباراتية التي وفرتها إسرائيل – عبر وساطة أمريكية – كانت حاسمة في تحديد مواقع سلاح الحزب جنوب نهر الليطاني، ما أتاح للجيش اللبناني شنّ عمليات تفكيك ومصادرة، وحتى تدمير لبعض المستودعات والمواقع العسكرية.
وقد بدا لافتًا حجم الإشادة الأمريكية والإسرائيلية بهذا التقدم، الذي وصفه مسؤولون إقليميون بـ”الاختراق النادر”. إلا أن واقع هذا التعاون يطرح إشكاليتين: أولًا، مدى مشروعية التنسيق غير المباشر مع إسرائيل في ظل واقع سياسي لبناني لا يزال ينظر إلى الأخيرة كـ”عدو رسمي”، وثانيًا، مدى قبول “حزب الله” بهذا الوضع في الجنوب، خاصة أنه لم يعلن أي اعتراض واضح حتى اللحظة، وهو أمر غير معتاد بالنسبة لتنظيم لا يسمح عادة بأي تدخل عسكري أو أمني في مناطقه.
من الجنوب إلى الشمال: معركة السيطرة أم رسائل دولية؟
الحديث عن نجاح الجيش اللبناني جنوب الليطاني يظل محدود الأثر إن لم يُستكمل ببسط سلطة الدولة على كامل الأراضي اللبنانية، بما فيها بيروت، والبقاع، والضاحية الجنوبية، ومناطق النفوذ الحزبي الأخرى.
ووفق ما نقله التقرير، فإن حزب الله “أبدى تعاونًا جزئيًا” في بعض المناطق، وتخلى عن السيطرة الأمنية على مطار بيروت، وهو تطور رمزي أكثر منه فعلي، لكنه يعكس على الأرجح محاولة لتفادي الانفجار مع الحكومة الجديدة برئاسة نواف سلام، التي تحظى بدعم غربي.
وفي هذا السياق، تبرز الخطة الحكومية متعددة المراحل لنزع سلاح الجماعات المسلحة، لا سيما التنظيمات الفلسطينية، وهي محاولة لبنانية واضحة لطمأنة واشنطن بأنها لا تستهدف “حزب الله” فقط، بل تمضي باتجاه تقويض أي سلاح خارج شرعية الدولة. غير أن تلك الخطط تظل محفوفة بالعقبات، خصوصًا أن مخيمات اللاجئين الفلسطينيين ما زالت تشكّل ملاذًا معقدًا للعصابات والسلاح المنفلت، في ظل واقع اجتماعي واقتصادي متفجر.
ما وراء الخبر: تقليص “حزب الله” أم هندسة وجوده؟
الحديث عن “تفكيك حزب الله” لا يعكس بالضرورة مسارًا لإنهاء وجوده، بقدر ما يشير إلى محاولة جديدة لإعادة ضبط تموضعه السياسي والعسكري ضمن حدود يمكن للمجتمع الدولي – وتحديدًا إسرائيل – التعايش معها.
فالحزب ليس فقط ميليشيا مسلحة، بل شبكة سياسية-اجتماعية-أمنية متجذرة في الدولة والمجتمع. وبالتالي، لا يمكن نزع سلاحه ببساطة دون التفاوض على “بديل وجودي”، وهو ما لم تتوفر شروطه حتى الآن. وإذا كان الحزب قد قبل بالتنازل النسبي في الجنوب، فذلك لا يعني أنه مستعد لفعل الشيء ذاته في مناطق نفوذه الأوسع، أو أن يسلّم بقيادة مركزية لبنانية كاملة تنفّذ أجندة غربية.
وهنا، يبرز احتمال أن يكون هذا “التفكيك” نوعًا من إعادة التموضع، أو حتى توزيع جديد للأدوار الأمنية في الجنوب، في ظل ضغوط إسرائيلية وأمريكية لتأمين الحدود دون الدخول في حرب مفتوحة، وليس بالضرورة مقدمة لتغيير جذري في المعادلة اللبنانية.
حقيقة أم تسويق دبلوماسي؟
ما جرى في الجنوب اللبناني قد يمثل اختراقًا موضعيًا في ميزان القوى، لكنه لا يرقى بعد إلى مستوى “تفكيك حزب الله”. هو أقرب إلى ترتيب هشّ لوقف إطلاق النار، قائم على توافقات دولية وإقليمية مؤقتة، وليس على تغير في موازين القوة داخل لبنان.
يبقى أن الدولة اللبنانية، برئاسة نواف سلام، تُحاول تصدير صورة جديدة للخارج: دولة تمسك بزمام المبادرة وتعيد ترميم شرعيتها. لكن الرهان على أن هذه البداية ستقود إلى نزع سلاح الحزب بالكامل، دون تفاهم إقليمي – إيراني تحديدًا – يظل أملًا غير واقعي في المدى المنظور.