في ضوء المعطيات الصادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني، يتجلّى عمق المأساة الإنسانية التي يعيشها قطاع غزة منذ بداية الحرب الإسرائيلية، إذ يكشف الرقم المروّع لعدد المفقودين – الذي تجاوز 11 ألف شخص – عن كارثة إنسانية مركبة لا تقف عند حدود القتل والتدمير، بل تمتد إلى حالة ضياع جماعي للمصير الإنساني، وسط انهيار المنظومة المدنية والحقوقية في القطاع.
انتهاك اتفاقيات جنيف
تُسلّط الأرقام الواردة الضوء على مشهد مأساوي يفتقر إلى الوضوح والشفافية، حيث إن مصير آلاف المفقودين لا يزال مجهولًا في ظل غياب بيانات دقيقة تؤكد ما إذا كانوا تحت الأنقاض، أو محتجزين، أو ضحايا اختفاء قسري. وهذه الضبابية في تحديد المصير تعكس حجم الانهيار في منظومات التوثيق، والبحث، والعدالة، وهو ما يزيد من معاناة العائلات الفلسطينية التي تعيش على أمل العثور على ذويها أحياءً أو معرفة مصيرهم على الأقل.
الدلالة الأبرز في تقرير الإحصاء تكمن في اتساع نطاق الظاهرة، وتداخل العوامل المؤدية إليها، ما يحوّل المفقودين من مجرد ضحايا إلى عنوانٍ لأزمة قانونية وإنسانية متعددة الأبعاد. فهناك مؤشرات قوية على أن جزءًا من هؤلاء قد يكون محتجزًا في السجون الإسرائيلية دون معلومات رسمية، ما يثير مخاوف من انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، وتحديدًا اتفاقيات جنيف المتعلقة بمعاملة المدنيين في زمن الحرب.
فشل المجتمع الدولي
كما أن ورود تقارير عن فقدان أشخاص أثناء توجههم لمراكز توزيع المساعدات يكشف عن الخطر المتزايد الذي يواجه المدنيين حتى في لحظات بحثهم عن البقاء. بل إن احتمال دفن بعضهم دون توثيق أو تسجيل، يدل على فقدان الدولة الفلسطينية للقدرة المؤسسية الكاملة على إدارة آثار الحرب، بما في ذلك حفظ كرامة الموتى.
من جهة أخرى، يعكس التقرير فشل المجتمع الدولي في توفير الحماية والحد الأدنى من المتابعة الإنسانية في غزة، حيث لا توجد آلية واضحة لمراقبة أو توثيق حالات الفقدان، ما يترك العائلات في مواجهة مأساة مركبة: غياب الأحبة من جهة، والفراغ القانوني والإنساني من جهة أخرى.
نفي الوجود الإنساني
وفي ظل هذا الواقع، تأتي جهود منظمات حقوق الإنسان كمحاولة لكسر هذا الصمت، ولكنها تبقى محدودة التأثير في غياب آليات مساءلة دولية فعّالة. فالأرقام التي قدّمتها مؤسسة “الضمير” وغيرها من المؤسسات الحقوقية الفلسطينية تؤكد أن ملف المفقودين بات بحاجة إلى تدخل دولي حاسم، ليس فقط لمجرد التوثيق، بل لكشف الحقيقة وتحقيق العدالة.
إن دلالات تقرير الجهاز المركزي للإحصاء لا تقف عند البعد العددي للمأساة، بل تؤكد أن غزة تعيش في ظل مأساة مركبة تتجاوز حدود الحرب لتصل إلى نفي الوجود الإنساني للأفراد، وتحويلهم إلى “أرقام مجهولة المصير”، ما يتطلب وقفة جادة من المجتمع الدولي والمؤسسات المعنية بحقوق الإنسان.