تشير واقعة الحكم بالسجن على النقيب الاحتياطي رون فينر إلى تصاعد ظاهرة التمرد الأخلاقي والسياسي في صفوف الجيش الإسرائيلي، في ظل استمرار الحرب على غزة وتداعياتها الداخلية المتزايدة داخل المجتمع الإسرائيلي. على الرغم من أن مدة العقوبة، عشرين يومًا فقط، قد تبدو رمزية من الناحية العسكرية، إلا أن الرمزية السياسية والأخلاقية وراء الواقعة هي ما يجعلها ذات أهمية استراتيجية.
«فينر» ليس مجرد جندي احتياط، بل ضابط قيادي في وحدة قتالية، خدم أكثر من 270 يومًا منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر. وهو أيضًا عضو في مجموعة “جنود من أجل الرهائن”، وهي مبادرة مدنية-عسكرية تجمع جنود احتياط يعارضون استمرار الحرب، ويرون أن التصعيد العسكري لم يحقق نتائج استراتيجية تُبرر استمراره. الرسالة التي يرسلها فينر – سواء بقراره أو من خلال تصريحاته – ليست فقط رفضًا فرديًا للخدمة، بل موقف احتجاجي موجه إلى القيادة السياسية والعسكرية، مفاده أن الحرب فقدت مشروعيتها الأخلاقية والعملية في عيون بعض من كانوا في صفوفها.
أزمة ثقة داخلية في المؤسسة العسكرية
التمرد ليس واسع النطاق بعد، لكنه يتسلل من الهامش إلى مركز القرار العسكري. أفراد مثل فينر، الذين قدموا تضحيات كبيرة خلال الشهور الماضية، يملكون شرعية أخلاقية عند الرأي العام الإسرائيلي أكثر من كثير من السياسيين. رفضهم يعكس ما يمكن وصفه بـ”أزمة الثقة داخل المؤسسة العسكرية”: بين الجنود الذين نفذوا الأوامر، والقيادات السياسية التي بدت عاجزة عن تحويل المكاسب العسكرية إلى نتائج استراتيجية حقيقية، سواء في ملف الرهائن أو في تقويض “حماس”.
وتعليق الجيش الإسرائيلي بأن “الرفض لأسباب سياسية غير مقبول”، يعكس خشيته من أن تنتقل العدوى. فالنقاشات داخل الجيش باتت تشبه النقاشات داخل المجتمع المدني، وتكسر الطابع الصارم الذي يفترض الحياد والانضباط الكامل في المؤسسة العسكرية.
الشارع الإسرائيلي.. متصدع ومشتعل
هذه الحادثة لا يمكن فصلها عن السياق الأوسع في الشارع الإسرائيلي، الذي يعيش منذ شهور في حالة من الانقسام العميق. عائلات الرهائن، مجموعات يسارية، وحتى أصوات من داخل المعسكر الأمني، بدأت تعارض استمرار العمليات العسكرية التي لم تحقق لا تحرير الرهائن، ولا الردع الكامل، بل أدت إلى عزل إسرائيل دوليًا وتوترات داخلية متزايدة.
التظاهرات، لا سيما تلك التي تطالب بإجراء انتخابات مبكرة أو اتفاق فوري لوقف إطلاق النار مقابل الرهائن، باتت مشهدًا أسبوعيًا. والمجتمع بدأ يرى أن حكومة نتنياهو تستخدم الحرب كغطاء سياسي لإطالة أمد بقائها، أكثر من كونها تخدم مصلحة الأمن القومي.
كيف تتعامل الحكومة؟
الحكومة الإسرائيلية، بقيادة بنيامين نتنياهو، تتعامل مع هذه الأصوات بعقلية “الردع الداخلي”، وليس الحوار. تسعى إلى تقويض مصداقية الأصوات المعارضة داخل الجيش، وتقدمها على أنها “تهديد أمني” أو “تسييس للجيش”، رغم أن ممارساتها هي في جوهرها تسييس للأمن القومي نفسه.
بدلًا من فتح حوار أو مراجعة استراتيجية، تمارس القيادة سياسة “الإنكار الحاد”، وتستخدم أدوات العقاب العسكري الرمزي لإرسال رسائل إلى الآخرين. لكنها تواجه مشكلة حقيقية: العقاب أصبح غير كافٍ لكتم الصوت، بل ربما يدفع آخرين للتساؤل.
في ظل هذا الوضع، يظهر الجيش كمؤسسة تمزقها تناقضات بين مهمتها العسكرية، وضغوط سياسية متزايدة تضعه في مواجهة مع قطاع من مجتمعه الداخلي. وإذا استمرت الحرب بدون أفق واضح، فإن حالات التمرد الأخلاقي مثل حالة رون فينر قد تتحول إلى ظاهرة واسعة تُعيد تعريف العلاقة بين الجيش والمجتمع في إسرائيل.
تشققات في الجدار الإسرائيلي
ما نراه اليوم ليس مجرد رفض للخدمة، بل بداية تشققات في الجدار الصلب الذي طالما ميّز المؤسسة العسكرية الإسرائيلية. في لحظة فارقة من تاريخها، تواجه إسرائيل سؤالًا داخليًا محرجًا: من يحمي من؟ ومن يدفع الثمن؟ وكلما طالت الحرب، زادت هذه الأسئلة، وقلّت قدرتها على تقديم إجابات مقنعة، سواء للجنود، أو للمجتمع، أو للعالم.