في الوقت الذي يشتد فيه الحصار وتتصاعد آلة الحرب على غزة، يظهر فجأة شكل جديد من أشكال الاستهداف الإسرائيلي للفلسطينيين، أكثر نعومة في مظهره، لكنه لا يقل خطورة في جوهره: مخطط تهجير النخبة الفلسطينية تحت غطاء “الترحيل الإنساني”. ما حدث مع الشابة الفلسطينية ضحى الكحلوت، الشاعرة والمعلمة التي غادرت غزة إلى عمّان ومن ثم إلى فرنسا، ليس مجرد قصة سفر فردية، بل جزء من مشهد أكبر بدأ يتضح مع تسريبات وتقارير متواترة تؤكد وجود مخطط منظم يهدف إلى تفريغ غزة من عقولها وكفاءاتها.
أوامر مباشرة
اللافت أن عمليات الخروج هذه لا تتم عبر الطرق التقليدية المعروفة، بل من خلال معبر كرم أبو سالم، بتنسيق مباشر بين قوات الاحتلال الإسرائيلي وسفارات أوروبية، أبرزها السفارة الفرنسية في القدس. ورغم أن بعض المغادرين، مثل ضحى، ينفون تلقيهم أوامر مباشرة بعدم العودة، فإن السياق السياسي والأمني المحيط بهذه “الإجلاءات” يكشف نوايا أعمق، تتجاوز حدود المساعدة الإنسانية، لتلامس حدود التهجير القسري المقنّع.
فرنسا، الدولة التي طالما قدّمت نفسها كمدافع عن حقوق الإنسان، تجد نفسها اليوم، بحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان، في قلب مخطط خطير يستهدف ترحيل نخبة من المثقفين والأكاديميين والمهنيين من غزة، بمن فيهم أطباء ومهندسون ومؤرخون. وهي عملية، إن صحت تفاصيلها، تشكل خرقاً واضحاً للقانون الدولي، الذي يحرّم نقل السكان المحميين قسرياً من أراضيهم تحت الاحتلال، حتى ولو كان “الخروج طوعياً” في ظاهره.
إعادة تشكيل غزة
ما يدعو إلى الريبة أكثر هو السرية التي تحيط بهذه العمليات، وحماية الجيش الإسرائيلي لها، بل وتسهيل خروج القوافل إلى مطار رامون في صحراء النقب، في سيناريو يبدو أقرب إلى عمليات “الترحيل الجماعي النظيف” الذي لا يحمل صور العنف التقليدي، لكنه يؤدي إلى نفس النتيجة: إفراغ غزة من العناصر التي يمكن أن تشكل عموداً فقرياً لأي نهوض وطني أو إعادة إعمار حقيقية في المستقبل.
في الخلفية، تبرز تصريحات للرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي تحدث بوضوح عن مخطط لإعادة تشكيل غزة عبر تهجير سكانها إلى الأردن ومصر ودول ثالثة، وتحويل القطاع إلى مشروع اقتصادي فاخر تحت مسمى “ريفييرا الشرق الأوسط”. هذا الطرح، الذي قوبل سابقًا بالسخرية أو التهوين، بدأ يتحول إلى سياسات ميدانية، خصوصاً في ظل تصريحات إسرائيلية تؤكد وجود خطط لفتح باب “الخروج الطوعي”، برعاية الحكومة والجيش.
الخطر الحقيقي في هذا السيناريو ليس فقط في تهجير أفراد، بل في اختراق الوجدان الفلسطيني عبر أدوات ناعمة تغلّف التهجير بشعارات إنسانية ومساعدات دولية. فحين يُقدّم الخروج من غزة كفرصة للنجاة، لا كمخطط سياسي، تصبح مقاومة التهجير أصعب نفسيًا، ويصير المجتمع الدولي شريكًا ضمنيًا في تصفية الوجود الفلسطيني على مراحل.
مخطط التهجير الناعم
فرنسا، التي تتصدر هذه العمليات بحسب التقارير، تتحمل مسؤولية مضاعفة، أخلاقية وقانونية، في تفسير دورها: هل هي تساهم في حماية الأفراد فعلاً، أم تسهم في مشروع طويل الأمد لإعادة تشكيل غزة ديموغرافيًا وثقافيًا؟ وهل ستبقى تدافع عن دورها الإنساني بينما الأدلة تتزايد حول مشاركتها في إفراغ الأرض من أبنائها تحت ضغط الحرب؟
مخطط التهجير الناعم هو سلاح جديد يستخدمه الاحتلال بأدوات مدنية، مدعوماً بصمت دولي، وربما حتى بتعاون قوى تدّعي الوقوف مع الشعب الفلسطيني. وإذا لم يتم التصدي لهذا النمط الجديد من التهجير، فقد نجد أنفسنا أمام نكبة ثالثة، لا تُرتكب بالصواريخ فقط، بل بجوازات السفر والطائرات والدبلوماسية الصامتة.