جنين، المدينة التي تقع شمال الضفة الغربية، لم تكن يومًا مجرد مدينة فلسطينية عادية. إنها سيدة الجليل، بنت الجبل، وحارسة الحدود مع فلسطين المحتلة عام 1948. منذ نشأتها، عُرفت جنين بأرضها الخصبة، وكرومها، وزيتونها الذي لا ينحني، كما أهلها تمامًا. مرّت المدينة بعصور من النضال، من أيام الاحتلال البريطاني، إلى نكبة عام 1948، ثم نكسة 1967، فكانت دومًا ساحة مواجهة لا تنكسر.
موجة جديدة من التدمير
لكن مع كل فصل من فصول التاريخ، كانت جنين تكتب روايتها الخاصة… بالحجارة، والدموع، والدماء. ففي الانتفاضة الثانية، كان اسمها يملأ نشرات الأخبار. “مخيم جنين” تحوّل إلى رمز للبطولة في وجه أعتى آلة عسكرية، ورغم المجازر والدمار، خرج من بين الركام جيل جديد، لا يخشى أن يقول: “أنا فلسطيني من جنين”.
اليوم، بعد أكثر من 129 يوماً من العدوان الإسرائيلي المستمر، تواجه جنين موجة جديدة من التدمير. لكنها ليست فقط قصة عن القصف، بل عن محاولة لقتل الحياة ذاتها. 600 وحدة سكنية مدمّرة بالكامل، وأحياء بأكملها صارت خراباً. الاحتلال لم يكتفِ بهدم البيوت، بل دمر كل شيء: الشوارع، شبكات الكهرباء، المياه، الصرف الصحي، حتى مستشفى جنين الحكومي… محاصرٌ بسواتر ترابية، وسيارات الإسعاف تكافح لتصل إليه.
أضرار كارثية
تخيل أن تكون مدينة كاملة بلا كهرباء، بلا مياه، بلا دواء… وفيها 22 ألف نازح يبحثون عن مأوى، و1200 تاجر أعلنوا إفلاسهم، و4000 عامل فقدوا مصدر رزقهم. هذا ليس فيلم كوارث، إنها جنين اليوم، المدينة التي كانت تستقبل كل يوم بين 50 و70 ألف متسوق من القرى والأرياف… والآن تغرق في الصمت.
رئيس بلدية جنين محمد جرار يصف الوضع بكلمات بسيطة، لكنها تحمل رعب الأرقام: 300 مليون دولار حجم الأضرار المباشرة، و160 مليوناً مطلوبة لإعادة الإعمار، والمخيم يحتاج إلى بناءٍ من جديد. كل هذا والاحتلال لا يزال يمنع طواقم البلدية من دخول المخيم لحصر الأضرار أو إصلاح ما يمكن إنقاذه.
مدينة خُلقت لتقاوم
لكن وسط كل هذا الدمار، ترفض جنين أن تموت. طواقم البلدية تعمل بخطة طوارئ لترميم الشوارع، وفتح المداخل، وإعادة تعبيد الطرق، أملاً في أن تعود الحياة شيئاً فشيئاً. إصلاح شارع الناصرة، والبيادر، والطرق المؤدية إلى المستشفى، ليس مجرد تعبيد إسفلت، بل محاولة لترميم قلب المدينة الذي ينزف.
جنين اليوم تشبه جرحاً مفتوحاً، لكنه جرحٌ لا يستسلم. أهلها، رغم كل شيء، لا يزالون هناك. يرممون، يقاتلون، يدفنون شهداءهم، ويضيئون الشموع في ليل الحصار.
جنين، تلك المدينة التي رفضت أن تكون هامشاً في الرواية الفلسطينية، تعيش الآن واحدة من أقسى فصولها. لكنها، كما كانت دائماً، ستنهض من الركام.. لأنها خُلقت لتقاوم.