في مشهد يتّسم بتسارع التغيرات الجيوسياسية والتحولات الاستراتيجية، بدأت ملامح واقع جديد في الشرق الأوسط بالتشكل، عنوانه الأبرز تقارب خليجي – أميركي متجدّد تقوده عودة دونالد ترمب إلى البيت الأبيض. فقد حملت الجولة التي بدأها الرئيس الأميركي من منطقة الخليج إشارات قوية إلى نوايا واشنطن في ترسيخ شراكة أمنية واستراتيجية مع السعودية وبقية الدول الخليجية، في سياق يفرض على القوى الإقليمية – وفي مقدّمتها إيران – إعادة النظر في مقارباتها القديمة.
ترمب، الذي لطالما تبنّى رؤية تقوم على «الضغط العالي» لاحتواء الخصوم، يعود هذه المرة برؤية أكثر براغماتية، لكنها لا تخلو من وضوح في الرسائل. ففي الوقت الذي يشهد فيه المشروع الإقليمي الإيراني تراجعًا بفعل الضربات الإسرائيلية المتكررة ضد أذرع طهران في سوريا والعراق واليمن، يتجه البيت الأبيض نحو بناء توازنات جديدة مع حلفائه التقليديين في الخليج، بما يعيد ضبط المشهد الأمني والسياسي في المنطقة.
إيران في زاوية ضيقة… والمصالحة مع السعودية خيار لا مفر منه
منذ توقيع اتفاق المصالحة السعودي – الإيراني في مارس/آذار 2023، بوساطة صينية، أبدت طهران مرونة تكتيكية في محاولة لتخفيف الضغوط عليها، ولضمان عدم عزلها بشكل كامل في ظل تحولات إقليمية ودولية معقّدة. فالتقارب مع الرياض لم يكن خيارًا نابعًا من ثقة، بقدر ما كان ضرورة لحماية مصالح إيران السياسية والاقتصادية، وسط خشية من أن تصبح عودة ترمب مقدّمة لموجة جديدة من العقوبات أو التهديدات العسكرية.
وتسعى إيران اليوم إلى اللعب على حافة التوازنات، من خلال اقتراح إنشاء كونسورتيوم إقليمي يضم السعودية والإمارات، لتشغيل منشآت نووية مشتركة على الأراضي الإيرانية، وهو اقتراح قديم أعيد طرحه بصيغة معدّلة، تهدف إلى الإبقاء على عمليات التخصيب، ولو بمستويات منخفضة، تحت رقابة خليجية – أميركية مشتركة.
لكن هذا المقترح، رغم طابعه البراغماتي، يصطدم بتخوّفات خليجية وأميركية مشروعة، مفادها أن إيران قد تستخدم هذا الاتحاد كغطاء للاحتفاظ بهوامش مناورة غير قابلة للتحقق، وربما تطرد المشغلين أو تسيطر على المنشآت لاحقًا في حال تغيّر المزاج السياسي أو صعد التيار المتشدد داخل النظام.
الخليج يعيد التموضع… وأميركا تعدّل أدواتها
من زاوية أوسع، تعكس جولة ترمب على دول الخليج رغبة الولايات المتحدة في إعادة صياغة أدواتها السياسية والأمنية في الشرق الأوسط. فبدلاً من المقاربة التقليدية التي سادت في عهده الأول، والتي اعتمدت على “الضغط الأقصى” والعزلة الشاملة ضد إيران، يبدو أن إدارة ترمب الثانية تراهن على دور خليجي أكبر في ضبط إيقاع المواجهة أو التهدئة، وفق مقتضيات المصالح المشتركة.
فالسعودية، بصفتها الطرف الأكثر تأثيرًا في المعادلة الإقليمية الجديدة، لا تبدو راغبة في التصعيد، بقدر ما تسعى إلى ترسيخ الاستقرار الذي يحتاجه مشروعها التنموي الطموح، لا سيما في ظل “رؤية 2030″، وهي الرؤية التي بات الأمن الإقليمي شرطًا جوهريًا لإنجاحها.
وتشير تسريبات من داخل أروقة التفاوض غير المباشر حول الملف النووي الإيراني، والتي تجري حاليًا في سلطنة عُمان، إلى أن واشنطن لم تعد تصرّ بنفس الحدة على “التخصيب الصفري”، بل باتت مستعدة لقبول صيغة وسط، شريطة أن تُخضع إيران برنامجها لمراقبة إقليمية ودولية حقيقية، وهو ما يعكس أثر الدور الخليجي في تخفيف حدة التصلّب الأميركي.
التوجس الإيراني من «اللوبي العربي» الجديد
ورغم ما تبديه طهران من براغماتية، فإن الحذر يبقى حاكمًا لمقاربتها. فداخل الأوساط السياسية الإيرانية، هناك تيار مؤثر يرى أن التحالف الخليجي – الأميركي بات أكثر تأثيرًا من نظيره الإسرائيلي في صياغة المواقف الأميركية تجاه الملف الإيراني. ويعتقد هذا التيار أن دول الخليج، وإن التزمت خطابًا ناعمًا، فإنها تستخدم أدواتها الاقتصادية والدبلوماسية لتقييد طهران ومنعها من تحقيق مكاسب استراتيجية.
وينطلق هذا التوجّس من قناعة متجذّرة في العقل الأمني الإيراني، مفادها أن دول الخليج، رغم ما تبديه من انفتاح، لا تثق في النوايا الإيرانية، وأن أي تقارب يتمّ تحت ضغط الضرورات لا الثقة. وهذا ما يفسر ميل طهران إلى الحذر المفرط، وحرصها على أخذ “ضمانات أمنية” لا تتوفر بسهولة في المشهد الإقليمي المليء بالتعقيدات.
نحو هيكل إقليمي جديد للأمن… والاقتصاد هو المحرّك
غير أن المعادلة الراهنة قد لا تسمح لإيران بالاستمرار في سياسة التوجس والمماطلة. فالتغيير في واشنطن، والتماهي الاستراتيجي بين الإدارة الأميركية والخليجية، والتراجع الكبير في فعالية أذرع طهران في الإقليم، كلها عوامل تدفع الجمهورية الإسلامية إلى خيارات أكثر انفتاحًا.
ويبدو أن المسار الأكثر عقلانية لطهران هو الرهان على التفاعل الإيجابي مع التحولات الجارية، ليس فقط لتجنّب التصعيد العسكري، بل لضمان حضور اقتصادي في إطار إقليمي جديد قائم على المصالح المتبادلة. فالترابط الاقتصادي لم يعد خيارًا تكميليًا، بل أداة رئيسة في بناء الاستقرار، ورافعة سياسية في علاقات القوة الإقليمية.
إيران على مفترق طرق
في ضوء المعطيات الراهنة، لا يبدو أن إيران قادرة على تحدي التوازنات الجديدة التي تتشكل في المنطقة. فعودة ترمب إلى الرئاسة، وتقاربه العميق مع الخليج، والدور المتصاعد للسعودية في صياغة أجندة الإقليم، يضع طهران أمام اختبار تاريخي: إما الانخراط في المعادلة الجديدة عبر المسار الدبلوماسي والاقتصادي، أو المغامرة مجددًا في صراعات قد تكون أكثر تكلفة من أي وقت مضى.