يمثل إعلان “جيش سوريا الحرة” عن استمرار انتشاره في مطار السين العسكري في ريف دمشق الشرقي، خطوة إضافية نحو إعادة ترسيم خرائط النفوذ في جنوب ووسط سوريا، في مرحلة ما بعد انهيار النظام البعثي. الفصيل المدعوم من الولايات المتحدة، والذي لطالما اعتُبر أحد أذرع واشنطن غير الرسمية في الصحراء السورية، يتحرك اليوم ضمن مناخ سياسي وأمني متغير، تتشابك فيه حسابات الحرب على الإرهاب مع محاولات تثبيت نفوذ استراتيجي بعيد المدى، في واحدة من أكثر الجبهات حساسية في الميدان السوري.
تكمن أهمية مطار السين، ليس فقط في رمزيته كواحد من المرافق العسكرية التي كانت تشكّل عصب الدفاع الجوي لنظام الأسد، بل أيضاً في موقعه الجغرافي الذي يربط بين محور دمشق – البادية – التنف، ويسيطر على خطوط الإمداد الممتدة إلى الشمال الشرقي. في هذا السياق، يُفهم الانتشار الجديد على أنه رسالة مزدوجة: الأولى ميدانية، تؤكد قدرة “جيش سوريا الحرة” على التحرك خارج مربعه التقليدي في قاعدة التنف؛ والثانية سياسية، تُظهِر للفاعلين الإقليميين والدوليين أن هذا الفصيل قادر على أداء أدوار أوسع ضمن الاستراتيجية الأميركية في سوريا، لا سيما في إطار ضبط الفوضى ومنع التمدد الإيراني وتنظيم داعش على حد سواء.
في بيانه المنشور على منصة “إكس”، حرص الفصيل على تأكيد التزامه بالتنسيق مع قوات التحالف الدولي، وتقديم نفسه كقوة محلية تعمل من أجل “حماية المدنيين”، في مقاربة توحي بمحاولة تأسيس شرعية محلية تتجاوز الصورة النمطية للفصائل الممولة خارجياً. هذا الخطاب يعكس إدراكًا متزايدًا لدى قيادات الفصيل أن المرحلة المقبلة تتطلب تموضعًا مختلفًا، أكثر قبولًا شعبيًا، وأقل ارتباطًا بالتجاذبات التقليدية التي لطالما مزّقت المعارضة السورية المسلحة.
في العمق، لا يمكن فصل هذا التحرك عن المشهد الأوسع في البادية السورية، حيث تتزايد الهجمات التي تنفذها خلايا داعش المتنقلة، وتتصاعد وتيرة التوترات بين الميليشيات المدعومة من إيران والفصائل المرتبطة بالتحالف. فمع الانهيار التدريجي للبنية الأمنية للنظام السابق، تحاول واشنطن عبر أدواتها المحلية سدّ الفراغات التي قد تشكل بيئة خصبة للتمدد الجهادي أو للنفوذ الإيراني. في هذا السياق، يتحول “جيش سوريا الحرة” إلى ورقة توازن دقيقة، يتم استخدامها بعناية لتثبيت معادلة “لا غالب ولا مغلوب” في مناطق الصراع المفتوحة.
ورغم أن عدد عناصر الفصيل لا يتجاوز بضع مئات، فإن وجودهم المدعوم لوجستيًا واستخباراتيًا من واشنطن، يجعلهم قوة مضاعفة التأثير، لا من حيث قدرتهم على المبادرة العسكرية فحسب، بل من حيث ما يمثلونه سياسيًا كقوة تحمل “ختم الموافقة الأميركية”، وهو ما يُكسب تحركاتهم وزنًا يتجاوز حضورهم العددي.
في المقابل، لا يخلو هذا التمدد من تحديات. فالسياق السوري بعد الأسد لم يُحسم بعد، وما تزال ملامح السلطة الانتقالية غير مستقرة بشكل نهائي. كما أن الفصائل الأخرى، سواء تلك المدعومة من تركيا أو القوى العائدة إلى الساحة من أبواب سياسية، قد ترى في أي توسيع لدور “جيش سوريا الحرة” مزاحمة في خارطة النفوذ المرتقبة. أضف إلى ذلك أن روسيا، التي لم تُغادر كليًا المسرح السوري، قد تنظر بعين الريبة إلى أي حضور عسكري أميركي مباشر أو بالواسطة في مناطق الوسط السوري، لا سيما قرب مطار استراتيجي كـ”السين”.
مع ذلك، يبدو أن هذا التحرك محسوب بدقة، ويعكس رغبة غربية في إدارة المشهد الأمني لا عبر عمليات عسكرية ضخمة، بل عبر “خيوط محلية” مضبوطة الإيقاع، وقادرة على ملء الفراغ دون خلق تصادم مباشر مع الأطراف الأخرى. جيش سوريا الحرة، بهذا المعنى، ليس مجرد فصيل مسلح، بل هو مشروع سياسي–أمني طويل الأمد، يسعى إلى لعب دور الضامن للاستقرار في جيب جغرافي هشّ، ضمن معادلة إقليمية لا تزال قيد التشكل.
وبينما تراقب القوى الدولية والإقليمية تحركات هذا الفصيل عن كثب، فإن السؤال الأبرز يظل: إلى أي مدى يمكن لقوة صغيرة، ذات طابع وظيفي، أن تتحول إلى طرف دائم في معادلة الحكم والأمن في سوريا ما بعد الأسد؟ وهل يملك “جيش سوريا الحرة” القدرة على تجاوز طبيعته كقوة مرتهنة للدعم الخارجي، نحو شراكة سياسية حقيقية في مستقبل سوريا، أم أنه سيظل أداة مرنة تُستخدم وتُسحب حسب الحاجة؟
في الوقت الراهن، يبدو أن المطار ليس مجرد هدف عسكري، بل منصة لاختبار هذا الاحتمال.