في خطوة قد تُعيد تشكيل ملامح المشهد الكردي في المنطقة، عقد حزب العمال الكردستاني مؤتمره الخاص لمناقشة إمكانية حلّ الحزب وإلقاء السلاح، تجاوبًا مع دعوة تاريخية أطلقها زعيمه المعتقل عبدالله أوجلان، لإطلاق مسار سلام دائم مع الدولة التركية، بعد عقود من الصراع الدموي الذي خلّف آلاف القتلى والنازحين، وكرّس حالة من الانقسام العرقي والسياسي في البلاد.
ورغم أن البيان الصادر عن الحزب عقب المؤتمر لم يتضمّن قرارات حاسمة أو صياغات قطعية بشأن الحل، إلا أن استخدامه لعبارة “قرارات تاريخية” ترك انطباعًا قويًا لدى المراقبين بأن تغييرات جوهرية تلوح في الأفق. هذه الإشارات لا تمرّ مرور الكرام، خاصة في أنقرة، التي تترقب منذ سنوات انفراجة في الملف الكردي تُجنّبها المزيد من التآكل السياسي والأمني في جنوب البلاد، وتُعيد إليها ورقة قوة على طاولة العلاقات الإقليمية.
التحول المحتمل في مواقف الحزب، الذي تتوزّع قياداته في جبال قنديل شمال العراق، ليس معزولًا عن التطورات الإقليمية، إذ إن مسار التفاوض بات خيارًا استراتيجيًا تسلكه أطراف كردية عديدة في دول الجوار. أكراد العراق، على سبيل المثال، اختاروا منذ سنوات طريق الاندماج المؤسساتي والدستوري في الدولة العراقية، وهو ما مكّنهم من تحقيق مكتسبات ملموسة، سياسية واقتصادية وثقافية، رغم التحديات المستمرة.
في السياق ذاته، يُنظر إلى تحوّل حزب العمال المحتمل نحو السلم والانخراط السياسي على أنه فرصة فريدة للدفع نحو حلول مشابهة في الساحة السورية، حيث تُشكّل المسألة الكردية أحد أعقد ملفات الأزمة، خصوصًا في ظل الصراع بين قوى محلية مدعومة دوليًا، وحكومة مركزية تفتقر إلى أي مقاربة جدية لتسوية الملف. ويأمل مراقبون أن يُفضي التحوّل في مسار حزب العمال إلى دفع الأطراف الكردية السورية نحو اعتماد صيغة مرنة قائمة على الشراكة داخل الدولة السورية المستقبلية، بدلًا من المراهنة على المشاريع الانفصالية أو الارتباط بالقوى الأجنبية.
أما داخليًا، في تركيا، فإن أي قرار نهائي من حزب العمال بحلّ نفسه والتخلي عن السلاح، سيضع الحكومة التركية أمام اختبار حقيقي: هل ستتلقف هذه المبادرة كمدخل لبناء سلام مستدام؟ أم أنها ستكتفي بالاستثمار الرمزي في هذا الحدث دون الذهاب نحو خطوات عملية حقيقية؟ فالحل السياسي لا يكتمل إلا بمنح الأكراد في تركيا حقوقهم السياسية والثقافية كاملة، من الاعتراف باللغة الكردية في التعليم الرسمي، إلى تحسين ظروف الحياة في المناطق ذات الغالبية الكردية، وتوسيع المشاركة السياسية.
ومع أن الطريق نحو تسوية شاملة ما زال طويلًا، فإن مجرد انعقاد مؤتمر داخلي للحزب يُناقش بشكل رسمي فكرة الحل والتسريح الطوعي، يمثّل بحدّ ذاته تحولًا بنيويًا في الذهنية السياسية لحزب طالما ارتبط اسمه بالعنف والتصعيد. إنه مؤشر على نضج سياسي متأخر، لكنه ضروري، يأتي استجابة لضغوط داخلية وخارجية، وأمام واقع إقليمي جديد لم يعد يحتمل أطروحات السلاح.
وفي حال تَرجمت “القرارات التاريخية” إلى وقائع على الأرض، فإن تركيا، والعراق، وسوريا، وحتى القوى الغربية، ستكون أمام فرصة نادرة لإغلاق فصل دموي من تاريخ الصراع الكردي، وفتح صفحة جديدة قوامها الحوار والشراكة، لا العداء والانقسام.