استمرار منع إدخال المساعدات الإنسانية والمواد الأساسية إلى قطاع غزة، مع دخول الحرب يومها الرابع والخمسين من استئناف العدوان، يمثل جريمة مركّبة الأبعاد تتجاوز حدود الصراع العسكري لتلامس جوهر الجريمة ضد الإنسانية، من خلال تحويل الحصار إلى سلاح فتاك يُستخدم لمعاقبة جماعية لملايين المدنيين. في ظل هذا الحصار، يصبح كل شيء قابلاً للانهيار: المستشفيات، شبكات المياه، الصرف الصحي، والمخابز، وحتى الحياة الاجتماعية برمّتها.
سياسة منهجية لتدمير إرادة المجتمع
نفاد الوقود، بشكل خاص، يعادل في هذا السياق حكمًا بالإعدام البطيء على السكان، فالمولدات الكهربائية هي الوسيلة الوحيدة لتشغيل المستشفيات وأجهزة التنفس والعناية المركزة، وضخ المياه، وحفظ الأدوية، وتشغيل الأفران والمراكز الإنسانية. غياب الوقود يعني انطفاء الحياة تدريجياً، وتحويل غزة إلى منطقة كارثة مفتوحة، لا على مستوى البنية التحتية فقط، بل على مستوى الحياة اليومية للمدنيين الذين أصبحوا عاجزين عن تأمين الحد الأدنى من البقاء.
منع دخول المساعدات لا يُفسَّر فقط كسلوك عسكري هدفه الضغط على المقاومة أو فرض شروط سياسية، بل يُعدّ سياسة منهجية تسعى إلى تدمير إرادة المجتمع بأكمله، عبر خلق بيئة قهر ومعاناة تدفع الناس إلى الهروب أو الاستسلام. إنها نسخة ناعمة من “الإبادة”، حيث لا يُستخدم السلاح فقط، بل يُستثمر الجوع والمرض والعطش كأدوات حرب.
لجان تحقيق دولية
التحذيرات التي أطلقها المكتب الإعلامي في غزة، والدعوات لتشكيل لجان تحقيق دولية، تكشف عن شعور متصاعد بالعجز الفلسطيني إزاء هذا الحصار، وفي الوقت نفسه عن محاولات يائسة للضغط على المجتمع الدولي لتحمّل مسؤولياته. لكن الواقع السياسي القائم، خصوصًا مع الموقف الأميركي المتواطئ أو على الأقل غير الحازم، يُظهر أن احتمالات كسر الحصار في المدى القريب تظل ضعيفة، وهو ما يعزز من احتمالية انهيار قطاعات حيوية بالكامل.
رسائل واشنطن إلى تل أبيب، التي كشفتها “معاريف”، بأن لا تقوم إسرائيل بعملية شاملة قبل زيارة الرئيس الأميركي المرتقبة، تكشف كيف أن الاعتبارات السياسية والإعلامية تتقدّم أحيانًا على حياة المدنيين. الأميركيون لا يمانعون استمرار الحرب، لكنهم لا يريدون صورًا محرجة تتصدر الإعلام وقت الزيارة. وهذا التواطؤ السياسي يغذّي لدى إسرائيل الشعور بالإفلات من العقاب، ويُبقي الحصار أداة مشروعة بعيون الحلفاء.
فشل المجتمع الدولي
في موازاة ذلك، فإن استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية في الضفة الغربية، يؤكد أن المشروع الإسرائيلي يتجاوز غزة، ويستهدف كامل الجغرافيا الفلسطينية. في ظل هذا السياق، يصبح الحصار أكثر خطورة، إذ لا يهدف فقط إلى خنق المقاومة في غزة، بل إلى كسر روح الصمود الفلسطيني أينما كانت.
فشل المجتمع الدولي في إجبار إسرائيل على فتح المعابر وإدخال المساعدات يعني أن العالم يشارك، ولو بالصمت، في واحدة من أكبر الكوارث الإنسانية في العصر الحديث. وليس من المبالغة القول إن استمرار الوضع بهذا الشكل قد يؤدي إلى موت آلاف الفلسطينيين ليس بالرصاص، بل بالجوع والمرض ونقص الدواء.
الحصار لم يعد مجرد وسيلة ضغط، بل صار سياسة تدميرية شاملة تستهدف كل أشكال الحياة. وكل يوم يمر دون إدخال المساعدات، هو خطوة أقرب نحو كارثة لا يمكن التراجع عنها. فالقضية لم تعد فقط حربًا على غزة، بل أصبحت حربًا على معنى الوجود الفلسطيني نفسه.