في القدس، لا تحتاج الحكاية إلى بداية ولا إلى نهاية؛ فكل صباح فيها يبدأ على وقع الحواجز، وينتهي بصدى الخطى الثقيلة لجنود الاحتلال. المدينة التي كانت – ولا تزال – عاصمة للروح، تتحوّل يوماً بعد يوم إلى مسرح لتضييق الخناق، وللإذلال المنهجي، وللاستفزاز السياسي الذي يطعن مكانتها، ويثقل كاهل أهلها.
اقتحام المسجد الأقصى
في صباح الأربعاء، بدا المشهد كمن تكرر كثيراً حتى صار مألوفاً – لكنه لا يُحتمل. الوزير الإسرائيلي المتطرف إيتمار بن غفير يدخل المسجد الأقصى على رأس مجموعات من المستوطنين، وترافقه فرقة كاملة من عناصر الشرطة المدججة بالسلاح، تتعامل مع قدسية المكان كأنها عقبة يجب اقتلاعها. كانت خطاه ثقيلة على حجارة المسجد، كما هي ثقيلة على صدور المقدسيين.
معاناة سكان القدس
في حي وادي الجوز، تجلس الحاجة أم أحمد على شرفة منزلها، تتابع الأخبار من مذياع قديم ما زال يعمل برغم العقوبات الإسرائيلية التي طالت حتى الكهرباء أحياناً. تقول وهي تهز رأسها: “زمان كنا نخاف من الجندي، هسّا صرنا نخاف من المستوطن اللي صاير فوق القانون”. لا تستطيع التوجه إلى الأقصى كما اعتادت، فالحواجز صارت كثيرة، والأسئلة أكثر، والتفتيش مهين، والدموع لا تواكب ما ترى.
أما خليل، الشاب المقدسي الذي يعمل بائعاً قرب باب العمود، فقد تم احتجازه أكثر من مرة لمجرد أنه وقف طويلاً بجانب أحد الأبواب. في كل مرة يتعرض فيها للاعتقال، لا تُوجه إليه تهمة واضحة، بل يُعامل كخطر محتمل. “كونك فلسطيني، فإنت متّهم مسبقاً”، يقول وهو ينظر نحو المسجد، حيث صار الاقتراب منه مهمة محفوفة بالخطر.
في سلوان، تتراكم حكايات التهجير القسري يوماً بعد يوم. عائلة ناصر، التي تسكن هناك منذ أكثر من خمسين عاماً، تلقت مؤخراً إشعاراً بالإخلاء لأن الأرض “مسجلة” باسم جمعية استيطانية. لا أوراق الملكية ولا ذكريات الجدات ولا صور الأعراس في الباحة تنفع أمام قرار المحكمة الإسرائيلية. “إحنا بنعيش كل يوم على أعصابنا. البيت صار مثل القنبلة الموقوتة، ما بنعرف إمتى بدهم يطردونا”، يقول ناصر وهو يشير إلى صور أولاده الثلاثة.
صمود في وجه الاحتلال
ورغم القمع والتنكيل، يصرّ سكان القدس على البقاء. فتاة صغيرة في الصف الخامس، تُدعى ليان، تمشي كل يوم على طريق يمر بجانب مركز شرطة الاحتلال للوصول إلى مدرستها في البلدة القديمة. تحفظ اسم كل حجر، وكل كاميرا مراقبة، وكل بوابة مغلقة. تقول بثقة: “الأقصى إلنا، وأنا رح أظل أروح عليه حتى لو خافوا الكبار”.
في القدس، الحكايات لا تُروى بل تُعاش. هي مدينة تُحاصَر من الجهات الأربع، لكن لا تزال تنهض كل يوم على صلوات أهلها، وعلى خطوات الأطفال، وعلى أحلام لا يستطيع الاحتلال أن يعتقلها. وبينما يواصل المتطرفون اقتحامهم لساحاتها، لا تزال المدينة ترفض الخضوع، وتحتفظ بحكاياتها التي لا تنتهي.