يواجه الداخل الإسرائيلي اليوم واحدة من أكثر اللحظات تأزماً في تاريخه السياسي والاجتماعي، إذ تتراكم التحديات وتتشابك بصورة تعكس تحولاً عميقاً في المزاج العام، وفي مواقف النخب العسكرية والأمنية، وحتى في نظرة اليهود في الخارج للدولة التي كانت توصف طويلاً بأنها “ملاذ آمن”.
المقال الأخير للكاتب الأميركي توماس فريدمان في نيويورك تايمز ليس مجرد تعليق صحافي، بل جرس إنذار مبكر يصدر من داخل الدوائر التقليدية الداعمة لإسرائيل، ويحذّر من أن المسار الحالي الذي تنتهجه الحكومة الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو لا يهدد فقط أمن غزة أو مستقبل الفلسطينيين، بل يزعزع استقرار إسرائيل نفسها، ويقوّض شرعيتها الأخلاقية في نظر حلفائها وأبناء شعبها.
انقسام حاد يتجاوز الخلاف السياسي
تشير التحذيرات المتصاعدة من شخصيات أمنية وعسكرية إسرائيلية بارزة إلى أن الأزمة تجاوزت الطابع السياسي التقليدي، وباتت تمس جوهر القيم المؤسسة للمجتمع الإسرائيلي، خصوصاً بعد أن تحوّلت الحرب في غزة إلى ما يصفه فريدمان بـ”الانتقام العدمي”، الذي فقد أي أهداف أمنية واقعية، وبات يخدم أجندات ضيقة لبعض الوزراء المتطرفين داخل الحكومة. في هذا السياق، تبدو المقارنات مع حروب إسرائيل السابقة ذات طابع خاص، إذ لأول مرة يشهد الداخل الإسرائيلي حالة انقسام حاد يتجاوز الخلاف السياسي، ليصل إلى أزمة ثقة داخل المؤسسة العسكرية نفسها، وتخوف من أن يصبح الجيش أداة لتحقيق غايات سياسية غير أخلاقية.
الغضب الشعبي لا يقتصر على الطيارين أو الضباط المتقاعدين الذين يرفضون المشاركة في العمليات العسكرية الجارية، بل يمتد إلى المجتمع المدني وقطاعات واسعة من الإسرائيليين الذين بدؤوا يعبرون عن رفضهم لصورة إسرائيل التي باتت تتشكل في الإعلام العالمي: دولة تمارس القتل الجماعي في قطاع محاصر، وتتبنى خطاباً سياسياً يتنكر للمواثيق الدولية. القلق من فقدان التعاطف الدولي، وتحول إسرائيل إلى كيان منبوذ أخلاقياً، أصبح شاغلاً حقيقياً للنخب، كما عبّر فريدمان، الذي حذّر اليهود في الخارج من تداعيات ما وصفه بـ”اللامبالاة المطلقة” تجاه المذبحة الجارية في غزة.
فقدان التعاطف اليهودي
رسائل منظمة “قادة أمن إسرائيل” التي نقلها فريدمان، ودعوتها يهود الشتات إلى التحرك ضد ما يجري، تعكس حالة من الهلع داخل أوساط صنع القرار الإسرائيلي السابق، وتفكك الإجماع التقليدي الذي كان يربط بين الجيش والشعب والدولة. هذه الحالة من التمزق تنذر، بحسب المقال، بفقدان إسرائيل لتعاطف يهودي طويل الأمد، وبتحولٍ خطير في العلاقة بين الدولة والشتات، حيث بدأت شرائح واسعة من يهود العالم تشعر بالخزي بدلاً من الفخر إزاء ارتباطهم بإسرائيل.
ما يزيد من تعقيد المشهد هو أن الحكومة الإسرائيلية، وبحسب المقال، لا تبدي أي نية للتراجع، بل تمضي قدماً في تصعيد الحرب، تحت ذريعة الدفاع عن النفس، لكنها في الواقع تستخدم آلة عسكرية مدمرة من دون معايير واضحة للتمييز بين أهداف عسكرية ومدنيين.
التبجح الإعلامي لبعض أعضاء الكنيست بقدرتهم على “قتل مئة فلسطيني يومياً” دون أن تثير هذه التصريحات غضباً شعبياً داخلياً يعكس تحولاً خطيراً في الثقافة السياسية الإسرائيلية، حيث يتآكل الحس الإنساني والأخلاقي تدريجياً.
إسرائيل على أعتاب الغليان
إجمالاً، ما تشهده إسرائيل اليوم ليس مجرد حرب مفتوحة في غزة، بل أزمة بنيوية تتعلق بطبيعة الحكم، وتوجهات المؤسسة السياسية، وحدود القوة العسكرية في تحقيق الأمن، والأهم، بتآكل الصورة الذاتية التي كانت تروجها إسرائيل عن نفسها كـ”ديمقراطية في الشرق الأوسط”.
مع تصاعد الكلفة الأخلاقية والسياسية والعسكرية للحرب، بدأت مؤشرات الانهيار الداخلي تظهر على شكل انقسامات علنية، ومراجعات فكرية، وتحركات احتجاجية، ما يشير إلى أن إسرائيل، كما يعرفها العالم، قد تكون على أعتاب مرحلة جديدة، لا يسودها فقط الغضب الخارجي، بل أيضاً الغليان من الداخل.