في خطوة تعكس تصاعد التخبط داخل المؤسسة السياسية والأمنية الإسرائيلية، لجأت السلطات إلى فرض تعتيم إعلامي واسع على تداعيات الضربات الإيرانية التي استهدفت مواقع داخل إسرائيل، في إطار سياسة تُظهر قلقًا بالغًا من آثار الصورة لا القصف فقط. هذا التعتيم الذي شمل حظر تصوير مواقع سقوط الصواريخ وإخضاع المراسلين، ولا سيما الأجانب والعرب، لقيود رقابية صارمة، يكشف أكثر من مجرد سعي لحماية الأمن القومي، بل يشير إلى مخاوف من اهتزاز الرواية الرسمية داخليًا وخارجيًا.
إخفاء حجم الخسائر المادية والبشرية
إسرائيل التي لطالما استخدمت الإعلام كأداة استراتيجية في إدارة الحرب والدبلوماسية، تجد نفسها اليوم أمام واقع ميداني يُخالف خطابها التقليدي القائم على “التفوق الاستخباري والتقني”. فإخفاء حجم الخسائر المادية والبشرية، ومنع تداول صور آثار الضربات، يعكس محاولة لحماية صورة الردع الإسرائيلي التي تلقت ضربة معنوية بفعل قدرة إيران على اختراق المنظومة الأمنية الإسرائيلية، رغم التحالف الوثيق مع الولايات المتحدة.
ما يُعمّق دلالات هذا التعتيم هو أن القمع طال أيضًا الاحتجاجات الداخلية، بما فيها تلك التي قادتها نساء يهوديات أمام منزل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ما يشير إلى خشية حقيقية من فقدان السيطرة على السردية الداخلية وسط تزايد الغضب الشعبي من استمرار الحرب وتداعياتها. هذه السياسة لا تستهدف فقط الصحافة الأجنبية، بل تعني عمليًا فرض رقابة مطلقة على كل ما يُنشر من داخل إسرائيل، ما يُقوّض مزاعمها بكونها “واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط”.
عقلية بن غفير المتطرفة
توصيف وزراء في الحكومة، مثل إيتمار بن غفير وشلومو كرعي، للمراسلين الأجانب بأنهم “جهات معادية”، هو في حد ذاته تعبير عن عقلية أمنية متطرفة ترى في كل صوت خارجي تهديدًا، حتى وإن كان صحفيًا ينقل الحقيقة. هذا النهج يؤكد أن إسرائيل باتت تدير المواجهة الحالية ليس فقط كمعركة عسكرية، بل كصراع على الوعي والرأي العام، وتحاول منع تشكل صورة دولية تُظهر ضعفها أو حجم الخسائر التي تتكبدها.
في العمق، لا يمكن فصل هذا التعتيم الإعلامي عن محاولات نتنياهو الحفاظ على تماسك حكومته اليمينية المتطرفة، وسط ضغوط متزايدة من الداخل والخارج. فالمجتمع الإسرائيلي بات منقسمًا أكثر من أي وقت مضى، وهناك حالة شك متزايدة في الرواية الحكومية، خصوصًا بعد إخفاقات السابع من أكتوبر وما تلاها من ضربات نوعية استهدفت العمق الإسرائيلي.
أزمة عميقة تهدد صورة إسرائيل
وفي ظل التقدم التقني الكبير ووسائل الإعلام الرقمية، لم يعد من السهل حجب الحقائق، ما يجعل محاولات التعتيم الإسرائيلي ليست فقط غير فعالة على المدى الطويل، بل تُفاقم أزمة الثقة بين السلطة والرأي العام. الأهم من ذلك، أنها تعطي خصوم إسرائيل ورقة معنوية قوية تُستخدم في المعركة الإعلامية والنفسية، وتُظهر تل أبيب كدولة تخشى الحقيقة، وتُدير حربها بأدوات الرقابة بدل الشفافية.
تعكس سياسة التعتيم الإسرائيلي محاولة للهروب من مواجهة الواقع أمام الكاميرا، لكنها تكشف في الوقت ذاته عن أزمة سردية عميقة تهدد صورة إسرائيل داخليًا وخارجيًا، وتُظهر هشاشة خطابها الرسمي في زمن تتسارع فيه الحقائق أكثر من الرصاص.