يُعدّ تمسّك حركة “حماس” بحكم قطاع غزة أحد أكثر الملفات تعقيدًا في المشهد الفلسطيني، ليس فقط بسبب إصرارها على السيطرة السياسية رغم الظروف الكارثية في القطاع، بل أيضًا لما يعكسه هذا التعنت من مفارقة مؤلمة: أن تصبح أولوية الحفاظ على المشروع التنظيمي والسياسي أعلى من حماية السكان الذين يفترض أن تُقاتل باسمهم.
معادلة قاسية يُدفع ثمنها من دماء الأبرياء
الدعوات الدولية المتكررة، مثل تلك التي أطلقها وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو لنزع سلاح حماس واستبعادها من مستقبل غزة، تأتي في ظل واقع إنساني مأساوي. فغزة باتت مسرحًا لمجزرة يومية، دمّرت فيها البنية التحتية، وسُحق اقتصادها، واستُشهد فيها الآلاف، فيما يرزح السكان تحت الحصار والجوع والتشريد. ومع ذلك، تواصل حماس التمسك بالحكم، وتُظهر صلابة غير قابلة للتفاوض في ملفات محورية، أبرزها شروط وقف إطلاق النار، والتهدئة، ومصير السلاح.
الحركة تتعامل مع غزة كمركز قوة استراتيجي، لا كمجتمع مدني يُفترض أن تُعلي مصلحته فوق كل اعتبار. فهي تُراهن على أن وجودها في الحكم، ولو كان فوق ركام، يعطيها مكانة لا يمكن تجاهلها في أي ترتيبات سياسية لاحقة. هذا المنطق، وإن بدا مفهومًا من زاوية الصراع مع الاحتلال، إلا أنه يُفضي إلى معادلة قاسية يُدفع ثمنها من دماء الأبرياء وكرامة المدنيين.
التضحية بالشعب الفلسطيني
رفض الحركة التنازل عن الحكم أو نزع السلاح، حتى في مفاوضات حرجة ترتبط بإطلاق سراح الأسرى ووقف الحرب، يضعها في مواجهة متزايدة مع تيارات داخلية وخارجية تتهمها بالتضحية بالشعب الفلسطيني من أجل بقاء سلطتها. هذه الانتقادات ليست جديدة، لكنها اليوم تُعبّر عن نفسها بشكل أوسع في الشارع الغزّي، الذي أنهكته الحروب والحصار والانقسام.
الواقع أن حماس تتصرف باعتبارها سلطة أمر واقع، لكنها في الوقت ذاته لا تتحمّل تبعات هذا الحكم بالكامل. فهي لا تملك المقومات الاقتصادية لإدارة شؤون القطاع، ولا السيادة الكاملة في مواجهة آلة الاحتلال. لكنها، في الوقت نفسه، تتشبث بهذا الحكم كقيمة رمزية، وتُراهن على المقاومة المسلحة كعنصر بقاء سياسي وتنظيمي، حتى لو جاء ذلك على حساب مشروع وطني موحّد، أو استقرار مجتمعي بات مهددًا.
حسابات سياسية معقّدة
السؤال الأخلاقي الذي يُطرح هنا هو: هل يبرّر مشروع المقاومة استمرار حرب استنزاف دائمة يُقتل فيها الأطفال، وتُدمَّر المدن، ويُحتجز المجتمع كله رهينة حسابات سياسية معقّدة؟ وهل تتحوّل معاناة غزة إلى ورقة ضغط بيد تنظيم، بدل أن تكون حافزًا عاجلًا لإنقاذ ما تبقى من الكرامة الجماعية؟
في السنوات الأخيرة، تحولت “حماس” من حركة مقاومة شعبية إلى لاعب إقليمي يُجيد استخدام أدوات السياسة بقدر استخدامه للسلاح. لكنها في هذا التحول، خسرت الكثير من التعاطف الشعبي العربي والدولي، خاصة حين بدا أنها مستعدة للمضي في المعركة حتى آخر بيت في غزة، بشرط ألا تفقد موقعها في المعادلة.
غزة تُدفع الثمن
النقد هنا لا يعني تجاهل جرائم الاحتلال، ولا محو السياق السياسي للصراع، بل هو دعوة لفهم أن المقاومة لا يجب أن تنفصل عن واجب حماية الناس الذين تُقاتل باسمهم. فالمقاومة التي تتحوّل إلى سلطة فوق المحاسبة، وتحتكر القرار، وتتجاهل المأساة اليومية لسكانها، تفقد جزءًا كبيرًا من مشروعيتها.
إذا أرادت “حماس” الحفاظ على حضورها السياسي، فإن الطريق لا يكون عبر فرض الحكم بالقوة أو ربط غزة بمصيرها التنظيمي، بل عبر إعادة تعريف دورها ضمن إطار وطني جامع، وتقديم مصلحة الشعب على مصلحة الكيان السياسي. وإن لم تفعل، فستبقى غزة تُدفع الثمن، مرة تلو الأخرى، لا لكونها مقاومة فقط… بل لكونها رهينة بين نيران الاحتلال وتعنت سلطاتها.