في الوقت الذي تواجه فيه غزة دمارًا غير مسبوق، يُطرح سؤال محوري في الأوساط السياسية والإنسانية: هل تملك حركة حماس، في ظل الوضع الكارثي الذي تعيشه غزة، رفاهية الإصرار على شروط تفاوضية صلبة في مسار وقف إطلاق النار؟ وماذا يعني تمسّكها بهذه الشروط في ضوء ما وصفته هي نفسها بـ”الإبادة الجماعية”؟ وهل حادثة السفينة “مادلين” ستُستخدم كورقة ضغط سياسية تُضاف إلى أدواتها التفاوضية؟
أهداف سياسية على حساب الإنسانية
حماس، منذ بداية الحرب، اعتمدت خطابًا يرتكز على الصمود والمقاومة، وتُظهر نفسها كلاعب سياسي وليس فقط فصيلًا عسكريًا. لكنها، في المقابل، تتعامل مع المفاوضات بطريقة يبدو فيها أن الأهداف السياسية طويلة المدى تطغى على الاستجابة الفورية للحالة الإنسانية. ففي الوقت الذي تنهار فيه البنية التحتية، ويتفاقم الجوع، وتفقد العائلات أبناءها وأمانها، تواصل الحركة تمسكها بمطالب تتجاوز وقف الحرب إلى ما يشبه إعادة صياغة المعادلة السياسية في المنطقة، كأنها تفاوض من موقع الدولة لا من موقع الحركة المحاصرة المنكوبة.
ورغم أن تمسك حماس بشروطها قد يُفسر كجزء من استراتيجية الحفاظ على قوتها السياسية والرمزية، إلا أن السؤال يبقى مطروحًا: من يدفع ثمن إطالة أمد المفاوضات؟ الواقع يقول إن الكلفة تُدفع من دماء المدنيين في غزة، ومعاناتهم اليومية داخل الأنقاض، وفي مخيمات النزوح، وتحت وطأة الجوع، وسط شح الدواء والماء والطعام.
إعادة النظر في المواقف التفاوضية
في هذا السياق، تأتي واقعة اعتراض السفينة “مادلين” كفرصة إعلامية وسياسية لحماس. إذ وجدت فيها الحركة نقطة ارتكاز جديدة لإبراز الحصار الإسرائيلي كجريمة ضد الإنسانية، وجعلت من القضية وسيلة لتأجيج التعاطف الدولي، وربما أيضًا لاستخدامها كورقة في المشهد التفاوضي، لتعزيز سردية “المظلومية العالمية” لغزة، مقابل خطاب إسرائيلي يحاول توصيف كل دعم إنساني بأنه دعم لـ”الإرهاب”.
لكن استغلال هذه الحادثة لا يخلو من إشكالية. فإذا كانت المساعدات التي تحملها السفينة “رمزية”، كما تصفها حماس، فإن التحرك العاجل المطلوب من الحركة لا ينبغي أن يكون فقط بتوجيه الشكر للمتضامنين، بل بإعادة النظر في مواقفها التفاوضية التي قد تمنع وصول مساعدات حقيقية. فهل يكفي أن تُدين “القرصنة”، بينما هي ترفض وقفًا إنسانيًا لإطلاق النار ما لم يتحقق “اتفاق شامل”؟
دماء المدنيين أوراق على طاولة المفاوضات
ربما تكون الواقعة مفيدة إعلاميًا لحماس، لكنها لا تغير حقيقة أن غزة في أمسّ الحاجة الآن لوقف العدوان، حتى ولو كان مؤقتًا. وهذه الحاجة، وفق المنطق الأخلاقي والسياسي، يجب أن تتقدم على كل الشروط السياسية مهما بلغت مشروعيتها.
هناك تناقض واضح بين الخطاب الإنساني الذي تتبناه حماس عند الحديث عن الحصار والسفن، وبين خطابها التفاوضي الصلب الذي قد يطيل أمد المأساة. إذا كانت فعلاً ترى أن غزة تُباد، وأن ما يحدث هو إرهاب دولة منظم، فالأولى بها أن تتعامل مع لحظة وقف إطلاق النار كأولوية إنسانية عاجلة، لا كفرصة لمراكمة الأوراق التفاوضية. فدماء المدنيين لا تصلح أن تكون أوراقًا على طاولة المفاوضات، مهما كان الهدف السياسي نبيلًا.