في الوقت الذي يعيش فيه سكان غزة واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في تاريخهم الحديث، تقف حركة حماس على مفترق طرق بين سردية المقاومة والمكابرة السياسية. ففي كل مرة تُعلن فيها كتائب القسام عن استهداف قوة إسرائيلية، كما حدث مؤخرًا في بيت لاهيا، تُروّج الحركة لهذا النوع من العمليات باعتباره انتصارًا نوعيًا يضيف إلى سجلها العسكري، رغم أنه لا يغيّر من ميزان القوى شيئًا، ولا يدفع المأساة الفلسطينية خطوة إلى الأمام.
إصرار حماس على أنها المتحكم في غزة
لكن هذا “الانتصار الإعلامي”، الذي كثيرًا ما يُصاغ بلغة بلاغية مقتضبة لا تُقدّم أدلة ملموسة، بات موضع تساؤل عميق لدى الفلسطينيين أنفسهم، قبل غيرهم. فالواقع المؤلم أن ما تدّعيه حماس من بطولات ميدانية، يأتي في وقت يُقتل فيه الأطفال جوعًا، وتنهار البنية التحتية، وتُدفن الأسر تحت ركام منازلها، وتُلاحق المجاعة ما تبقّى من سكان القطاع. المأساة لا تُقاس بعدد الجنود المستهدفين أو القتلى الذين يُعلن عنهم في بيانات متفرقة، بل بحجم الدمار الذي ألحقته إسرائيل كرد فعل مباشر على عملية 7 أكتوبر، والتي أدت إلى اجتياح شامل لغزة، ومجازر جماعية بحق المدنيين.
ما حدث في 7 أكتوبر، بغضّ النظر عن خلفياته، دفع الفلسطينيين إلى مواجهة كارثة استراتيجية غير مسبوقة، فُتح فيها الباب أمام حرب تدميرية شاملة لم توفر لا البشر ولا الحجر. لكن الأخطر من ذلك هو إصرار حماس على مواصلة الخطاب نفسه، والتصرف كأنها لا تزال تُسيطر على زمام المبادرة، في حين يتهاوى القطاع تحت ضربات القصف، والحصار، والفوضى الإنسانية.
حضور سياسي على حساب القضية الفلسطينية
منذ بداية الحرب، تجاوز عدد الضحايا من المدنيين عشرات الآلاف، وأُجبر ما يقرب من مليوني إنسان على النزوح، دون مأوى أو طعام أو مياه نظيفة. ومع ذلك، تواصل حماس إصدار بيانات تُشيد بقدرة مقاتليها على قتل عدد محدود من الجنود الإسرائيليين، وكأن هذه العمليات المتفرقة كفيلة بتغيير الواقع أو استعادة الحقوق الوطنية. في المقابل، لم تقدم الحركة حتى اللحظة رؤية سياسية واقعية لما بعد الحرب، ولا استراتيجية حقيقية لحماية المدنيين الذين يدفعون ثمنًا باهظًا نيابة عنها.
والأكثر مأساوية، أن هذه البيانات تُستخدم في بعض الأحيان كمادة تفاوضية أو كجزء من سباق داخلي بين فصائل المقاومة، في سعي كل طرف لتثبيت حضوره السياسي، حتى لو جاء ذلك على حساب القضية الفلسطينية ذاتها. فبدلًا من الانخراط في مراجعة نقدية لما جرى، أو فتح الباب أمام مبادرة وطنية جامعة تُخرج غزة من أزمتها، تصرّ حماس على الاستمرار في معركة استنزاف قد تمنحها بقاءً في السلطة، لكنها تحرم الشعب من أي أفق للحل.
حماس تُراهن على بطولات تكتيكية
في هذا السياق، يبدو أن حماس باتت تُراهن على “بطولات تكتيكية” تُغذّي روايتها الدعائية، بينما تُعزز إسرائيل من وجودها الأمني وتُحكم سيطرتها على القطاع. فالمعادلة أصبحت واضحة: كلما نفّذت حماس عملية محدودة، ردّت إسرائيل بتوسيع رقعة الدمار، ومع كل جولة عنف، يخسر الفلسطينيون المزيد من أرواحهم وأحلامهم ومستقبلهم.
إن استمرار حماس في سياسة المقاومة التي تُغفل الكلفة الإنسانية، وتُوظّف المعاناة لأهداف سياسية داخلية، لا يخدم إلا الاحتلال، ويزيد من عزلة غزة، ويحوّل القضية الفلسطينية من قضية تحرر وطني إلى صراع مدمّر بلا أفق. لا انتصار يُمكن الاحتفاء به بينما يُدفن الأطفال تحت الأنقاض، ولا مقاومة تُبنى على أنقاض شعب بأكمله.