في الوقت الذي يتصاعد فيه الدمار في غزة إلى مستويات غير مسبوقة، وتغرق فيه حياة المدنيين في الظلام والموت، تواصل حركة “حماس” التعامل مع الحرب الدائرة كفرصة سياسية أكثر منها أزمة إنسانية. المقترح الأخير الذي قُدّم – بحسب صحيفة جيروزاليم بوست – يعكس بشكل صارخ هذه المقاربة التي باتت أولويتها حماية الكيان السياسي للحركة، حتى وإن كان الثمن المزيد من الدماء الفلسطينية.
تثبيت موقع الحركة في معادلة الحكم
الاقتراح الذي شمل إطلاق سراح خمسة رهائن مقابل انسحاب إسرائيلي جزئي، وتوسيع المساعدات، والاعتراف الضمني بحماس كطرف سياسي، لا يُظهر نضجًا تفاوضيًا بقدر ما يكشف إصرارًا على تثبيت موقع الحركة في معادلة الحكم، ولو على أنقاض غزة. من الواضح أن الحركة تعرف جيدًا أن إسرائيل لن تقبل بهذه الشروط، ومع ذلك تصر على طرحها في محاولة لإظهار “المرونة” أمام العالم، دون تقديم تنازل فعلي قد يُضعف سيطرتها على القطاع.
الخطورة في هذا السلوك لا تقتصر على فشل التفاوض، بل في ما تحمله من دلالات استراتيجية. فحماس، من خلال هذا الطرح، تدفع باتجاه حرب استنزاف هدفها النهائي ليس وقف المعاناة، بل ترسيخ سلطتها كحاكم فعلي لغزة، حتى لو أدى ذلك إلى تقويض كل جهود التهدئة وتهجير آلاف العائلات وسقوط المزيد من الشهداء. ما يجري هو استخدام مُتكرر للمدنيين كأوراق ضغط، واحتكار للقرار الفلسطيني في لحظة كان يفترض أن تكون وطنية بامتياز، تتجاوز الحسابات الفصائلية إلى وحدة وطنية حقيقية.
الدبلوماسية الخلفية
الأكثر إثارة للقلق أن الحركة تحاول، كما يبدو، استثمار الاتصالات مع وسطاء غير تقليديين، مثل رجل الأعمال الأميركي الفلسطيني بشارة بحبح، لنقل رسائل تُبقيها في قلب المشهد السياسي، دون أن تُقدّم ما يُقنع المجتمع الدولي بأنها طرف مسؤول يسعى لحماية أرواح شعبه. هذا النوع من الدبلوماسية الخلفية لا يُسعف المدنيين تحت القصف، بل يُعيد إنتاج منطق “إدارة الأزمة”، بدلًا من “حلّها”.
الواقعية السياسية تقتضي من أي طرف مقاوم، إن كان صادقًا في نضاله، أن يعرف حدود التفاوض الممكن، ويتحرك ضمن إطار توافقي ووطني جامع، لا عبر مقترحات فردية تشترط اعترافًا دوليًا به كسلطة، وكأن القضية الفلسطينية صارت وسيلة لإضفاء شرعية على سلطته، لا العكس.
من يدفع الفاتورة
إن استمرار حماس في تقديم مبادرات على هذا النحو، دون مراعاة لمعادلات التفاوض، أو لمآلات المشهد الإنساني في غزة، يُعرّي بوضوح المنهج الذي تسير عليه الحركة: منهج تثبيت حكم، لا تحرير وطن. وهو ما يتطلب وقفة جادة من كل القوى الفلسطينية والعربية، لأن ما يحدث ليس فقط مواجهة مع إسرائيل، بل سباق على “من يدفع الفاتورة”، والمدنيون وحدهم من يدفعون الثمن الأكبر، بينما الأطراف المتصارعة تتنازع على الأدوار والمكاسب بعد الحرب.