موافقة حركة حماس على مقترح الوسيط الأمريكي ستيف ويتكوف بوقف إطلاق النار لمدة 60 يوماً، تُعد لحظة فاصلة في سياق الحرب المستمرة على قطاع غزة، لكنها ليست محض قبول إنساني لتهدئة المعاناة، بل تُقرأ كخطوة سياسية محسوبة تسعى من خلالها الحركة إلى إعادة ترتيب أوراقها، في ظل واقع ميداني وإنساني معقّد، وضغط عسكري لا يُمكن التقليل من تأثيره، حتى على تنظيم عقائدي مثل حماس.
تفكيك البنية العسكرية لحماس
منذ السابع من أكتوبر 2023، اتخذت حماس قراراً بالهجوم الواسع الذي قاد إلى اندلاع واحدة من أكثر الحروب دموية في تاريخ الصراع، وكان الهدف المعلن كسر الحصار وتحرير الأسرى و”هزّ” الردع الإسرائيلي. لكن الواقع اليوم في غزة يُظهِر أن حسابات الحركة كانت تحمل كثيراً من الاندفاع السياسي، دون دراسة واقعية لحجم الرد الإسرائيلي، أو للثمن الباهظ الذي سيدفعه المدنيون في القطاع.
بعد أكثر من 600 يوم من الحرب، يبدو أن حماس باتت تدرك أن هدف إسرائيل النهائي لا يقتصر على تفكيك بنيتها العسكرية فقط، بل يشمل إنهاء وجودها السياسي والتنظيمي بالكامل. هذا الفهم الجديد هو ما يفسر التغير في خطاب الحركة، وقبولها الهدنة المطروحة من المبعوث الأمريكي، ليس بوصفها تنازلاً، بل كـ”استراحة محارب”، محاولة لإعادة التموضع، والحفاظ على ما تبقى من بنيتها الداخلية وشرعيتها السياسية.
انتقام غير مسبوق من إسرائيل
هذا القبول يحمل دلالات نقدية عميقة لنهج الحركة منذ البداية. فقرار 7 أكتوبر، مهما كان يحمل من أبعاد المقاومة، جاء في توقيت وسياق دولي غير مواتٍ، وأدى إلى استدعاء انتقام غير مسبوق من إسرائيل، دفع ثمنه الشعب الفلسطيني وحده. واليوم، تظهر حماس وكأنها تحاول شراء الوقت، لا من أجل الانتصار العسكري، بل من أجل البقاء السياسي.
أكثر من مليون ونصف فلسطيني يعيشون نكبة مستمرة في الخيام، وآلاف القتلى والجرحى، ومحو شبه كامل للبنية التحتية في غزة، بينما لا تزال حماس تصر على “القيادة” تحت هذه الرماد. القبول بالمبادرة الأمريكية يكشف اعترافاً ضمنياً بأن الاستمرار في الحرب لم يعد خياراً قابلاً للاستمرار، خصوصاً في ظل العزلة الإقليمية، ورفض بعض الدول العربية أي شراكة مستقبلية لحماس في الحكم.
الحفاظ على السلطة
التحرك الأخير عبر قناة ويتكوف – ومن خلال رجل أعمال فلسطيني أمريكي، وليس طرفاً دولياً رسمياً – يعكس أيضاً رغبة حماس في تجنّب القنوات التقليدية التي أثبتت عقمها أو تواطؤها في نظر الحركة. لكنها أيضاً تُظهر عزلة الحركة عن مراكز القرار الإقليمي والدولي، واضطرارها لقبول وساطات من خارج الساحة الرسمية المعتادة.
سياسياً، تسعى حماس إلى تثبيت شرعيتها كممثل سياسي للفلسطينيين في غزة، ومنع أي ترتيبات ما بعد الحرب تُقصيها. هذا التوجه يعكس الأولوية التي توليها الحركة للحفاظ على سلطتها، حتى على حساب الكلفة الإنسانية الكارثية التي تراكمت خلال الشهور الماضية. فالهدف الواضح هو التمهيد لحل سياسي لا يستبعدها، ولو عبر التفاوض مع واشنطن غير المباشر، أملاً في كسر جدار العزلة، وتثبيت حضورها على طاولة ما بعد الحرب.
التهدئة وسيلة حماس للبقاء السياسي
غير أن هذه المناورة محفوفة بالمخاطر، إذ قد تُفسر من قبل الداخل الفلسطيني كاعتراف بفشل المغامرة العسكرية، ومن قبل إسرائيل كدليل على ضعف الحركة واستعدادها للتنازلات. كما أن بقاء نتنياهو في الحكم، مع حكومته اليمينية المتطرفة، يجعل من هذا المسار هشاً، لأن بقاء الحرب هو وسيلته للبقاء السياسي، تماماً كما أن التهدئة هي وسيلة حماس للبقاء السياسي أيضاً. وبين الطرفين، تُسحق غزة، وتُدمَّر الأمل في مستقبلٍ فلسطيني موحد.
خطوة حماس نحو الهدنة تكشف كثيراً من التناقضات: الرغبة في التقاط الأنفاس، الخوف من الإبادة، الحاجة للحفاظ على السيطرة، ومحاولة الخروج من زاوية خانقة بلا اعتراف بالخطأ. لكنها أيضاً فرصة للمراجعة – إن أرادت الحركة – بأن القوة العسكرية وحدها، دون حاضنة سياسية وشعبية واستراتيجية ناضجة، قد تتحول من مقاومة إلى عبء. ومن مشروع تحرير إلى أزمة وجود.