ربما إصرار الوفد المفاوض على أن مناقشة الجهة التي ستحكم قطاع غزة في اليوم التالي لحرب الإبادة المتواصلة حتى اللحظة، “شأن فلسطيني داخلي”، والتنازلات الجديدة التي قدمتها الحركة مؤخرا في مفاوضات صفقة التبادل ووقف الحرب، والتي وصفتها إسرائيل بأنها “إيجابية”، تأتي ردا أو “صفقة من تحت الطاولة” على الاصرار الأمريكي بضرورة مناقشة هذا الأمر، الأمر الذي يستدعي من الجميع نقاشا عميقا ومن أكثر من جهة، لمعرفة الجهة المناسبة لملئ هذا الفراغ الذي سيكون فور وضع الحرب أوزارها.
صحيح أن إسرائيل ترفض حتى اللحظة كلا من حماس والسلطة الفلسطينية للسيطرة على قطاع غزة، أو حتى مناقشة الأمر في الكابنيت، إلا أن الضغط العالمي والأمريكي سيجبرها على مناقشة الأمر فعليا، خصوصا بعد فشل فكرة “روابط القرى” ومحاولة التعاون مع العشائر الفلسطينية لحكم القطاع في آخر محاولة إسرائيلية بهذا الشأن.
وفي ظل زحمة هذه المناقشات، يخرج قادة حماس ليؤكدوا بأن أحدا لن يحكم غزة على ظهر دبابة إسرائيلية، وأن من سيحكم غزة هو من يختاره الشعب، متفاخرين بأن ذلك سيكون ضربة تجاه من راهن على سقوط الحركة أو من ظن أنه قادر على دخول غزة وحكمها دون قرار شعبي، في رفض واضح لعودة السلطة الفلسطينية التي أخرجتها حماس بقوة السلاح عام 2007 من القطاع المحاصر والمدمر.
ألم يكن ينبغي على حماس وقادتها أن يناقشوا هذا الأمر بكل عقلانية؟ في ظل حاجة القطاع المدمر إلى أكثر من 20 عاما لإعمار الدمار الذي لم يشهد له التاريخ من مثيل، وإعادة بناء البنى التحتية والمياه وشبكة الكهرباء والطرق والمنشآت، دون أن ننسى سقوط منظومة التعليم والصحة وتدمير البنية الاجتماعية والنفسية، وليس بعيدا الكثير من القضايا العالقة.
كنت أتوقع أن حماس أكثر ذكاء من التفكير، وأنها بالرسم الاستراتيجي لنظرية ليبرمان ومن خلفه أطراف عديدة إغراق الحركة في حكم غزة انتهى بعد ٧ أكتوبر، وكنت أعتقد أن الذي تعتبره إسرائيل هدفا رئيسيا للحرب، تعتبره حماس إنجازا سياسيا كبيرا يحسب كهدف حققته في دفع كل الأطراف للبحث عمن يدير أزمات القطاع بعيدا عن نظرية إغراقها، لكن بعد تصريحات قيادتها أيقنت مجددا أن هذه القيادة مهووسة وغير صالحة أصلا لقيادة هذا الشعب الذي تم اغراقه في حرب إبادة غير متوقعة وغير محسوبة النتائج والعواقب، لمجرد أن قيادة حماس تريد ذلك بدون أي أفق واضح.
إصرار الحركة على العودة إلى حكم غزة رغم كل ما حصل، يثبت وجود فجوة عميقة بين تفكير قيادتها المسيطرة على القطاع، وبين الواقع.. نحن في كارثة كبيرة جدا، قد يصل الى “ترانسفير” جديد ولجوء جديد وهجرة جديدة، وقيادة حماس تقول إنها لن تسمح لأحد بحكم القطاع دون موافقتها أو مشاركتها.
وفي ظل هذا التفكير لحركة حديثة العهد بالسياسة والحكم، والذي يظهر بأن همّهم الوحيد هو عدم انتزاع الحكم من يدهم، يكشف عن مدى قصر نظرهم السياسي، أخشى ما أخشاه اعتقادهم بأن إدارة مليوني مواطن، مثل إدارة مسجد في أحد الأحياء لا يزيد عدد رواده عن 500 شخص، فهم مارسوا 17 عاما من الحكم بشكل بدائي جدا ومشوّه، حتى أصبح الأمر بالنسبة لهم أن قتل آلاف الفلسطينيين أمر طبيعي، أما محاولة استبعادهم عن الحكم فهذا الكارثة والمصيبة التي ستدمر القضية الفلسطينية.
في المقابل، فإن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بدأ يقدّم تنازلات هو الآخر في الفترة الأخيرة، لكن ليس بهدف الافراج عن أسراه من أيدي حماس فقط، بل من مبدأ ضمان بقاءه في الحكم والسلطة، فهو يحلم بتحقيق أهداف الحرب المعلنة منذ السابع من أكتوبر، ليبقى في الحكم ليس إلا..إذن، نتنياهو وحماس تفكيرهم واحد وهدفهم في استمرار الحرب واحد، الاثنان لا يقدمان التنازلات من أجل معاناة شعبهما، إنما من أجل البقاء في الحكم وفقط..فهل ستطول الحرب وهل سيبقى الحال هكذا أم نشهد ثورة للشعب.