في مشهد ثقيل بالدلالات، بثّت كتائب القسام، الجناح العسكري لحركة حماس، مقطع فيديو يظهر فيه الأسير الإسرائيلي عمري ميران، وهو يتحدث من قلب أحد الأنفاق في قطاع غزة، وسط ظروف توصف بالقاسية. ظهر الأسير في حالة إنسانية مؤثرة، ووجّه نداءً صريحًا إلى المجتمع الإسرائيلي، لا سيما المتظاهرين ومؤيدي صفقات تبادل الأسرى، لتنظيم مظاهرة حاشدة أمام منزل رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وحثهم على الضغط على الحكومة من أجل التوصل إلى صفقة فورية لإعادة الأسرى الإسرائيليين.
هذا الظهور الإعلامي للأسير، الذي يقضي عيد ميلاده الثاني في الأسر، يندرج ضمن استراتيجية “حرب نفسية ناعمة” تتبعها حماس في التعامل مع ملف الأسرى. الرسالة ليست موجهة فقط للحكومة الإسرائيلية، بل أيضاً للرأي العام الإسرائيلي، الذي يشهد انقساماً حاداً بشأن كيفية إدارة الحرب على غزة، ومصير الأسرى الذين لا يزالون محتجزين في القطاع منذ أحداث السابع من أكتوبر 2023.
مصير الأسرى
رسالة ميران تمضي في إدانة مباشرة لنتنياهو ووزرائه، محمّلاً إياهم مسؤولية ما حدث في السابع من أكتوبر، وما تلاه من حرب واسعة تسببت في احتجازه، كما اتهمهم بعدم الاكتراث لمصير الأسرى، متهمًا مؤيدي الحكومة برغبتهم الضمنية في موتهم. هذه النبرة الحادة غير المعتادة في خطاب الأسرى الإسرائيليين تشير إلى حالة استياء متزايدة قد تسعى حماس لاستثمارها داخل إسرائيل نفسها.
غير أن استخدام هذا النوع من التسجيلات المصورة، رغم قدرته على تحريك المشاعر ولفت الانتباه، يبقى محفوفًا بإشكاليات أخلاقية وقانونية. فحماس، من خلال عرضها المتكرر للأسرى، تسعى لتحقيق مكاسب نفسية وإعلامية، لكنها في الوقت نفسه تدخل في منطقة رمادية من القانون الدولي الذي يفرض حماية خاصة لأسرى الحرب، ويمنع استخدامهم لأغراض الدعاية السياسية أو الإعلامية، حتى وإن كانت نوايا الحركة تنطلق من محاولة الضغط على إسرائيل لوقف القصف والتوصل إلى اتفاق.
فشل القيادة الإسرائيلية
حماس تحاول أن تقدم نفسها كجهة تحافظ على حياة الأسرى، بالمقارنة مع سياسة إسرائيل التي تستهدف أماكن يُحتجز فيها هؤلاء، كما حصل في حالة الأسير الأميركي الإسرائيلي عيدان ألكسندر الذي أعلنت القسام عن مقتله جراء قصف إسرائيلي مباشر لمكان احتجازه. غير أن هذه المحاولات، مهما بدت عقلانية في ظاهرها، لا تنفي عن الحركة مسؤولياتها الأخلاقية كجهة تحتجز مدنيين – على الأقل بحسب التصنيف الدولي – وتعرضهم للمخاطر ضمن بيئة حرب مستعرة.
من ناحية أخرى، يمكن القول إن هذه المقاطع تحمل قدرة معينة على التأثير في الرأي العام الإسرائيلي، خصوصًا في ظل اتساع نطاق الاحتجاجات داخل إسرائيل بسبب الحرب، وظهور تصدعات واضحة في ثقة الجمهور بقيادة نتنياهو. نداءات الأسرى من داخل غزة تُوظَّف في هذا السياق كـ”مرآة عكسية” تعكس فشل القيادة الإسرائيلية في ضمان سلامتهم، وهو ما يُهدد بخلق أزمة داخلية قد تؤثر في مستقبل الحكومة اليمينية المتطرفة.
لكن ما بين الضغط الإعلامي وتوظيف الأسرى، يظل المشهد معقّداً. فبينما تحاول حماس تحريك المياه الراكدة بوسائل غير تقليدية، تبقى محاسبتها قائمة – ليس فقط من المجتمع الدولي ولكن من داخل البيت الفلسطيني أيضاً – بسبب استمرار احتجازها لأشخاص دون وجود قنوات محايدة لضمان سلامتهم، في ظل رفضها التعامل مع منظمات دولية كالصليب الأحمر لتأكيد وجودهم وظروفهم الإنسانية.
مأزق مزدوج
تسجيل عمري ميران يقدّم نموذجاً واضحاً على تقاطع الحرب النفسية والسياسة والإعلام في حرب غزة، لكنه أيضاً يُعيد تسليط الضوء على مأزق مزدوج: قيادة إسرائيلية لا تُبدي اهتمامًا حقيقياً بسلامة مواطنيها الأسرى، وحركة مقاومة تتعامل مع الأسرى كورقة تفاوض ووسيلة ضغط، لكنها قد تُخفق في الحفاظ على البعد الإنساني الذي تطالب به الآخرين.
الرسائل المصورة من داخل الأنفاق، وإن حملت تأثيراً دراماتيكياً، لا تُغني عن الحاجة إلى اتفاق شامل يحمي المدنيين – من كلا الطرفين – ويضع حداً لحلقة العنف المتكررة التي لا تنتج سوى مزيد من الموت والخسارة والانهيار الأخلاقي.