يشكّل واقع طلاب الثانوية العامة في مدينة القدس صورة مصغّرة عن المشهد الفلسطيني العام، حيث يمتزج التعليم بالإغلاق، والاختبارات بالحواجز العسكرية، ومستقبل الشباب بالقيود المفروضة من قِبل قوة احتلال تسعى لإضعاف البنية المجتمعية عبر استهداف أحد أكثر مكوّناتها حيوية: التعليم.
ظروف لا تليق بمكانة التعليم
في ظل أجواء أمنية مشحونة، وقيود مشددة تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي في مدينة القدس، خاض أكثر من 3600 طالب وطالبة امتحان اللغة العربية – أول اختبارات الثانوية العامة لهذا العام – في ظروف استثنائية لا تليق بمكانة التعليم ولا بحقوق الطلبة. إذ لم يكن التحدي بالنسبة للطلبة هو صعوبة الأسئلة أو طول المنهج، بل الوصول إلى قاعة الامتحان نفسها وسط حصار وحواجز وانتظار طويل عند مداخل البلدة القديمة.
الاحتلال الإسرائيلي لم يكتفِ بإعلان حالة الطوارئ التي شلّت حركة المواصلات العامة وأربكت ترتيبات الامتحانات، بل عمدت عناصر شرطته المتمركزة عند بوابات القدس القديمة إلى عرقلة دخول الطلاب إلى المدارس، بذريعة أنهم “ليسوا من سكان البلدة”، وكأن اجتياز حاجز التعليم بات يستلزم بطاقة مرور جغرافية. وقد تكررت هذه الممارسات رغم الترتيبات التي بذلتها لجنة أهالي الطلبة والجهات التعليمية لتأمين سير الامتحانات.
تفكيك البنية التعليمية
إن هذه العراقيل لا تُفهم بمعزل عن سياسة طويلة الأمد تتبعها سلطات الاحتلال ضد التعليم الفلسطيني، خاصة في القدس، بهدف تشويه بيئة التعليم وتفريغها من مضمونها الوطني والثقافي. فرض اشتراطات أمنية على المدارس مثل توفير “ملاجئ”، ونقل الامتحانات من قاعات إلى أخرى بناء على اعتبارات إسرائيلية، ليست سوى أدوات للضغط النفسي والإداري على الطلبة والمعلمين، في محاولة لزعزعة استقرار العملية التعليمية.
كما أن التضييق على شبكة المواصلات العامة خلال فترة الامتحانات ليس عَرَضًا جانبيًا، بل انعكاسٌ مباشر لنية مبيتة لتفكيك البنية التعليمية، وتكريس الإحساس بالهشاشة وعدم الأمان. فحين يُجبر الطالب على الخروج من منزله قبل ساعات لتفادي الحواجز، وحين يخوض الامتحان تحت ضغط نفسي ناجم عن تواجد الجنود المدججين على أبواب المدارس، فإن العملية التعليمية تتحول من جسر إلى المستقبل إلى امتحان للبقاء.
كسر إرادة الأجيال
ليس من المبالغة القول إن الاحتلال يتعمد ضرب قطاع التعليم كجزء من إستراتيجية أشمل تستهدف الوعي الفلسطيني، وتُراهن على كسر إرادة الأجيال القادمة. فالمدرسة ليست فقط مكانًا للتعلم، بل فضاء لتشكيل الهوية والانتماء، ومعركتها اليوم في القدس هي معركة ضد التهويد وضد محاولات تطويع الإنسان الفلسطيني لينشأ في بيئة تفتقر للثقة والأمان.
رغم كل ذلك، يستمر الطلبة المقدسيون بالتوجه إلى امتحاناتهم، يحملون أقلامهم في مواجهة بنادق الاحتلال، ويخوضون معركة الحفاظ على مستقبلهم في مدينتهم. وهذه الصمودية، في حد ذاتها، تشكّل رسالة أبلغ من كل الشعارات، بأن التعليم في فلسطين ليس مجرد حق، بل فعل مقاومة يومي في وجه محتل يرى في نجاح الطالب خطرًا لا يقل عن الحجر والكلمة.