في خضم الحرب الطاحنة التي يشهدها قطاع غزة ومناطق مختلفة من الضفة الغربية، تتكشّف يومًا بعد آخر التناقضات الجوهرية في خطاب وسلوك الفصائل الفلسطينية المسلحة، وعلى رأسها حركة “حماس” وذراعها العسكري “كتائب القسام”. ففي الوقت الذي تغرق فيه غزة تحت أنقاض الدمار، وتتفاقم فيه المأساة الإنسانية بشكل غير مسبوق، يواصل الجناح العسكري للحركة إصدار بيانات تفاخر بعمليات استهداف جزئية أو محدودة لآليات عسكرية إسرائيلية، دون أي حساب للكلفة البشرية الباهظة التي يدفعها المدنيون الفلسطينيون نتيجة هذه المواجهات.
خطاب سياسي غير متصالح
يبدو واضحًا أن هذه البيانات، التي تُقدّم باعتبارها “إنجازات ميدانية”، تحاول الحفاظ على صورة القوة والصمود، لكنها في الواقع تكشف عن حالة إنكار للواقع الكارثي الذي تعيشه غزة، وعن خطاب سياسي غير متصالح مع ما يعيشه الشارع الفلسطيني من ألم وفقدان وتشريد. فغزة، التي تتعرض لحصار وتدمير ممنهج، لم تعد تحتمل مزيدًا من الخطابات التعبوية التي تبرر استمرار المعاناة دون أفق واضح أو استراتيجية مدروسة.
في المقابل، تصرّ “حماس” على التمسك بإدارتها للقطاع، رغم انهيار شبه كامل للبنية التحتية، وتفاقم الأزمة الإنسانية، وانعدام أفق الإعمار أو الخروج من الكارثة، وهو ما يطرح تساؤلات حقيقية حول الأولويات التي تحكم قرارات الحركة. فبدلًا من السعي لتجنيب المدنيين مزيدًا من الكوارث، أو الانخراط في مسار يوازن بين المقاومة السياسية والبُعد الإنساني، تختار الحركة التمترس خلف سرديات النصر، دون الاعتراف بفداحة الخسائر، لا سيما أن أعداد الشهداء تجاوزت عشرات الآلاف، وأعداد المفقودين والمهجرين في تصاعد مستمر.
التمسك بحكم غزة
تنبع الخطورة من أن هذا الخطاب قد يساهم في تكريس حالة الانفصال بين القيادة والفئة الأوسع من الشعب، الذي بات يرزح تحت وطأة الجوع، والخوف، وفقدان الأمل. كما أن استمرار “حماس” في التمسك بحكم غزة بعد هذا الخراب، دون مراجعة جادة للسياسات أو فتح المجال أمام إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني على أسس توافقية، يُعدّ نوعًا من الإصرار على إدارة الدمار، لا الخروج منه.
في الضفة الغربية، وعلى الرغم من استمرار التصعيد الإسرائيلي، تبدو الفصائل الأخرى، مثل “سرايا القدس”، حريصة أيضًا على تسجيل نقاط “ميدانية” رمزية، في ظل تصاعد غير مسبوق في عمليات الجيش الإسرائيلي، خاصة في جنين وطولكرم. لكن هذه العمليات تجري أيضًا ضمن سياق فقدان البوصلة الاستراتيجية، حيث يغيب التنسيق السياسي الشامل، وتحضر الانفعالية المسلحة في ظل غياب المشروع الوطني الجامع.
الأولويات الوطنية
إن مشهد التباهي العسكري في مقابل المأساة الإنسانية، يكشف عن خلل عميق في منطق إدارة الصراع، وعن حاجة ماسة لإعادة تقييم الأولويات الوطنية، بحيث لا يُختزل النضال الفلسطيني في صور الاستعراض الميداني، بل يُعاد ربطه بمشروع تحرري واقعي، يحمي المدنيين ويعيد للقضية الفلسطينية بعدها الأخلاقي والإنساني أمام العالم.