في أول كلمة متلفزة له عقب الهجمات الصاروخية الإسرائيلية على أراضٍ إيرانية، اختار المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية، علي خامنئي، توجيه رسائل مزدوجة إلى الداخل والخارج. فقد بدا خطابه مشحونًا بالغضب القومي، وهو ما يعكس الرغبة في ترميم صورة الردع الإيراني بعد خرق واضح لهيبة السيادة الوطنية، لكن دون أن يقطع مع حسابات التوازن الاستراتيجي أو الإيحاء بانزلاق مفتوح نحو الحرب.
خامنئي، في خطابه، تعهّد بـ”إذلال الكيان الصهيوني”، واصفًا إياه بالبغيض والرذل، ومؤكدًا أن القوات المسلحة الإيرانية سترد بكل ما أوتيت من قوة. كما طمأن الإيرانيين بأن “لا تهاون في هذه الجريمة”. غير أن هذا التصعيد الخطابي لم يرافقه إلى الآن فعل ميداني حاسم، وهو ما يثير تساؤلات حول حدود الرد الإيراني الفعلي في هذا التوقيت، وعمّا إذا كان النظام في طهران يبحث عن ردٍّ رمزي يحفظ ماء الوجه أكثر من كونه يتجه لتغيير قواعد الاشتباك بشكل جذري.
محدودية الرد الإيراني: بين الخطاب والتكتيك
رغم علو نبرة خامنئي، تتضح معالم الحذر الإيراني في اختيار توقيت الرد وشكله. فمن جهة، يعلم صناع القرار في طهران أن أي مواجهة شاملة قد تخرج سريعًا عن السيطرة، وتعرّض العمق الإيراني لهجمات موجعة، في وقت تعاني فيه البلاد من ضغوط اقتصادية خانقة. ومن جهة أخرى، فإن استهداف مواقع عسكرية إسرائيلية أو بنى تحتية مدنية في ردّ متوازن قد لا يكون مضمون النتائج، خاصة مع فاعلية منظومات الدفاع الجوي الإسرائيلية، واستعداد تل أبيب للتصعيد.
الأهم من ذلك أن طهران تدرك جيدًا أنها، في نهاية المطاف، تخوض صراعًا غير متكافئ من حيث التكنولوجيا العسكرية والدعم الدولي، خاصة في ظل الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل. لذا، يمكن اعتبار الخطاب المتشدد الصادر عن خامنئي جزءًا من أدوات الردع النفسية والداخلية، أكثر من كونه إعلانًا عن تحول استراتيجي في التعاطي مع “العدوان”.
دور واشنطن: حدود الدعم وسقف التصعيد
في هذا السياق، يبرز دور الولايات المتحدة باعتبارها الطرف الأكثر تأثيرًا على مسار التصعيد أو احتوائه. فواشنطن، التي سارعت إلى إعلان دعمها لإسرائيل، تجد نفسها في موقف دقيق: من جهة، لا يمكنها السماح بتوسع الهجوم الإيراني دون ردّ، ومن جهة أخرى، فإن انفجار الصراع إلى مواجهة مفتوحة يشكل كابوسًا لإدارة بايدن، خاصة في عام انتخابي حاسم.
البيت الأبيض قد يضغط في الكواليس على تل أبيب لتفادي تجاوز خطوط حمراء قد تدفع إيران إلى رد أكبر، مقابل السماح لها بالاحتفاظ بـ”انتصار معنوي” من خلال ردود محدودة ومدروسة. وبذلك، قد تساهم واشنطن في إدارة الأزمة من الخلف، عبر آلية “الرد المحسوب”، بهدف الحيلولة دون انزلاق الوضع نحو حرب شاملة تخرج عن السيطرة.
الخطاب بين الهيبة والواقع
في المحصلة، يمكن القول إن خطاب خامنئي يعكس إدراكًا عميقًا لمعادلة الردع المتبادلة وحدودها. فالرسائل التي وجّهها كانت ضرورية لترميم صورة الدولة في الداخل، وتثبيت مبدأ أن “الاعتداء لن يمر بلا رد”، لكنها في الوقت نفسه لم تغلق الباب أمام حلقة جديدة من التهدئة غير المعلنة، طالما أن الرد الإيراني ظل مضبوطًا ضمن هامش “الحفاظ على ماء الوجه” دون الانجرار إلى هاوية الحرب. وفي هذا الهامش بالذات، تلعب الولايات المتحدة دورًا حاسمًا، ليس فقط كحامية لإسرائيل، بل كوسيط صامت لإبقاء العاصفة تحت سقف الانفجار الشامل.