بدأت ملامح المجاعة الكارثية ترتسم بقوة فوق سماء قطاع غزة، لتكشف عن وجه الاحتلال الإسرائيلي الحقيقي الذي لم يكتفِ بشن حرب إبادة عسكرية مدمرة على السكان، بل عمد إلى تنفيذ سياسة تجويع ممنهجة تهدف إلى إهلاك ما تبقى من الفلسطينيين، خاصة الأطفال الذين أصبحوا ضحايا صامتين يموتون ببطء أمام أنظار العالم.
المخابز توقفت عن العمل بسبب نفاد الدقيق، مستودعات الغذاء أصبحت خاوية، محطات تحلية المياه دمرت، والقطاع الصحي شبه منهار مع نفاد الإمدادات الطبية. هذه المعطيات لا يمكن النظر إليها بمعزل عن قرار سياسي واضح ومتعمد من حكومة الاحتلال، بإغلاق المعابر بشكل كامل ومنع دخول المساعدات الإنسانية التي تنتظر العبور منذ أسابيع طويلة.
سلاح التجويع
الأسباب السياسية لهذا التعنت الإسرائيلي تكمن في استراتيجية أوسع، تهدف إلى استخدام الجوع كسلاح لإخضاع السكان ودفعهم إما للقبول بالحلول الإسرائيلية المفروضة أو الموت البطيء. بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة يدركون أن استمرار العمليات العسكرية وحدها لن يحقق لهم الإخضاع الكامل لغزة، فاختاروا استهداف البنية التحتية المدنية، ثم انتقلوا إلى سلاح التجويع الممنهج، ضاربين بعرض الحائط كل التحذيرات الدولية والنداءات الإنسانية.
ورغم التحذيرات الصادرة عن كبرى المنظمات الأممية مثل برنامج الأغذية العالمي والأونروا، ورغم صرخات منظمات الإغاثة الدولية مثل أوكسفام، فإن الوضع يزداد سوءًا يومًا بعد يوم. الأطفال يفقدون الوزن بشكل جماعي، الأمهات يطهون أعلاف الحيوانات لتوفير أي شيء يسد الرمق، ومئات الآلاف باتوا عالقين في دوامة الجوع والمرض والموت البطيء.
بيانات إنسانية بلا أنياب
في هذا السياق المأساوي، يظهر العجز الأوروبي صارخًا. رغم البيانات الرسمية التي صدرت عن وزراء خارجية بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والتي طالبت إسرائيل بإنهاء الحصار والسماح بإدخال المساعدات، فإن هذه الدول فشلت في ممارسة أي ضغط حقيقي أو فعّال على حكومة الاحتلال. هذا العجز يعود لعدة أسباب، أبرزها أن هذه الدول تظل مقيدة بتحالفاتها الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، التي تمنح إسرائيل غطاءً دبلوماسيًا وسياسيًا شبه كامل، خصوصًا في مجلس الأمن الدولي.
كما أن الأوروبيين، رغم إدراكهم لحجم الكارثة، يخشون من اتخاذ خطوات حازمة قد تفتح جبهات سياسية داخلية مع اللوبيات الداعمة لإسرائيل في بلدانهم، أو تعرضهم لضغوط اقتصادية وسياسية معقدة. لذلك، تكتفي العواصم الأوروبية بإصدار بيانات إنسانية بلا أنياب، بينما تستمر إسرائيل بسياسة التجويع بلا رادع حقيقي.
تصفية حسابات استعمارية
المأساة في غزة لم تعد فقط جريمة ضد الإنسانية تُرتكب على مرأى ومسمع العالم، بل أصبحت أيضًا وصمة عار تلاحق النظام الدولي الذي يفشل للمرة تلو الأخرى في حماية أبسط حقوق الإنسان للفلسطينيين. المجاعة المقبلة ليست كارثة طبيعية، بل جريمة صنعها الإنسان بدوافع سياسية بحتة، تستخدم سلاح الجوع لتصفية حسابات استعمارية قديمة ومتجددة.
وفي ظل هذا الوضع القاتم، يظل أمل الفلسطينيين معقودًا على صمودهم الأسطوري وعلى صحوة ضمير عالمي حقيقية قد تتأخر، لكنها ستأتي، لأن صوت الحق، مهما خُنق اليوم، لا يموت.