في زمن يُقصف فيه كل شيء، من البيوت إلى المدارس إلى المستشفيات، تحاول الحكومة الفلسطينية أن تُبقي على صوت آخر لا يُسمع بسهولة في زمن الحرب: صوت الدبلوماسية. وبينما تمضي آلة الحرب الإسرائيلية في تدمير غزة وتوسيع استيطانها في الضفة، تتحرك القيادة الفلسطينية على جبهة أخرى – جبهة الكلمات، المكالمات، المؤتمرات، والبيانات المشتركة، في محاولة لإقناع العالم بأن دماء الأبرياء ليست “تفصيلًا” هامشيًا في لعبة السياسات الدولية.
تثبيت الوجود الفلسطيني سياسيًا
الجهد الذي يقوده رئيس الوزراء محمد مصطفى يُظهر إدراكًا عميقًا لطبيعة ميزان القوى. فالحكومة الفلسطينية، المحاصرة بالاحتلال داخليًا والمكبّلة خارجيًا بانقسام سياسي عميق، لا تملك الكثير من الأدوات الميدانية، لكنها تسعى لخلق زخم دبلوماسي من شأنه أن يحرج الدول الداعمة لإسرائيل، ويحرّك العواصم المترددة، ويستثمر التغيّرات التي بدأت تظهر تدريجيًا على الخريطة الأوروبية والدولية.
الرهان هنا ليس على “قلب موازين القوى”، بل على “تغيير لغة المعادلة”. حين تتواصل القيادة الفلسطينية مع لوكسمبورغ، أو تطالب دولًا أخرى بالاعتراف بفلسطين، فهي لا تفعل ذلك فقط من باب البروتوكول، بل كجزء من معركة شرسة لتثبيت الوجود الفلسطيني سياسيًا في مواجهة مشروع الإلغاء الذي تقوده إسرائيل على الأرض.
الدبلوماسية الفلسطينية
الدعوة الواضحة للاعتراف بدولة فلسطين ليست مسألة رمزية فقط، بل محاولة لتدويل المأساة، ونقلها من مربع “النزاع الأمني” الذي تحاول إسرائيل حصرها فيه، إلى مربع “الاحتلال والاستعمار”، وهو المربع الذي يتطلب تحركًا دوليًا أكثر شجاعة ووضوحًا. وفي هذا السياق، فإن التوقيت بالغ الأهمية: مع اقتراب المؤتمر الدولي للسلام في نيويورك، تسعى فلسطين لأن يكون لها موطئ قدم سياسي قوي يستند إلى اعترافات متزايدة.
لكن تبقى المعضلة الكبرى: إلى أي مدى يمكن لهذه الجهود أن تُحدث فرقًا فعليًا؟
الواقع يشير إلى أن المكالمات وحدها لا توقف العدوان، والبيانات لا تردع الطائرات. الدبلوماسية الفلسطينية تتحرك في فضاء دولي منحاز أو صامت أو مكبل بالمصالح، ما يجعل أثر التحركات بطيئًا ومحدودًا. ومع ذلك، فإن تجاهل هذه التحركات يُعدّ اختزالًا خطيرًا للمشهد، لأنها تمثل الأداة الوحيدة حاليًا التي يمكن من خلالها خلق تراكم سياسي وأخلاقي يفضح الاحتلال ويضعه تحت المجهر الدولي.
التحرك الفلسطيني لا يراهن فقط على الحكومات، بل يستهدف أيضًا الشعوب والرأي العام العالمي. والدعوة لدور أوروبي فاعل، والضغط لوقف المجازر، وإدخال المساعدات، ليست سوى فصول في رواية أكبر تسعى لتثبيت أن الفلسطينيين ما زالوا على الطاولة، وأنهم أصحاب حق، وليسوا مجرد ضحايا حرب تُروى بصيغة “الطرفين”.
معركة البقاء السياسي
من هنا، فإن جدوى التحرك الدبلوماسي ليست في نتائجه المباشرة، بل في قدرته على كسر رواية الاحتلال، وتعزيز شرعية المطالب الفلسطينية في وقت يحاول البعض تسويق القضية وكأنها “إرهاب مقابل دفاع عن النفس”.
الدبلوماسية في هذا السياق ليست ترفًا، بل ضرورة في معركة البقاء السياسي، ولعلّ ما يميّز هذا الجهد أنه يحاول ألا يُغرق في الخطابات الفارغة، بل يسعى لربطه بخطط واضحة للتعافي، وإعادة الإعمار، والتأسيس لأفق سياسي يربط بين إنهاء العدوان وتحقيق السلام الحقيقي القائم على العدالة