الاقتحام الليلي للمسجد الأقصى من قِبل قوات الاحتلال الإسرائيلي، واعتقال عدد من حراسه، يشكّل دلالة خطيرة على التحول المتدرج في أسلوب السيطرة الإسرائيلية على الحرم الشريف. العملية التي نُفّذت فجراً لم تكن إجراءً أمنياً بحتاً كما تدّعي سلطات الاحتلال، بل كانت رسالة مزدوجة: استعراض للقوة داخل أقدس المقدسات الإسلامية في القدس، ومحاولة متعمدة لتقويض صلاحيات دائرة الأوقاف الإسلامية.
إعادة رسم حدود السيطرة داخل الأقصى
في التوقيت والسياق، يحمل الاقتحام أبعادًا تتجاوز الحدث نفسه. فهو يأتي بعد عشرة أيام من تشديد القيود على المسجد الأقصى بذريعة تعليمات الجبهة الداخلية المرتبطة بالمواجهة مع إيران، ويعيد إلى الأذهان كيف تستغل إسرائيل الأوضاع الإقليمية المتوترة لتكثيف قبضتها على القدس، عبر إفراغ المسجد من المصلين والحراس، وتحييد الوجود الإسلامي في واحد من أقدس معالم المسلمين في العالم.
الاعتداء على الحراس تحديدًا، وهم موظفون رسميون تابعون للوقف الإسلامي، يمثل تطاولاً مباشراً على إدارة الأوقاف، التي تُعد رمزية سيادية للوجود الإسلامي في القدس. وهو ما وصفه الشيخ عكرمة صبري بأنه “سابقة خطيرة”، ويكشف عن نية إسرائيلية واضحة لإعادة رسم حدود السيطرة داخل الأقصى، بحيث تصبح يد الشرطة الإسرائيلية هي العليا في المسجد، لا سلطة الوقف.
مخطط تصعيدي
التفتيش الوحشي، والعبث بمحتويات المصليات، وإلقاء نسخ من القرآن الكريم على الأرض، تعكس جميعها حجم الاستفزاز الممنهج، الذي لم يكن يستهدف فقط أمن المكان، بل هويته الدينية ورسالته الروحية. هذه الأفعال لا يمكن فصلها عن المساعي المتكررة لفرض أمر واقع داخل الحرم، تمهيدًا لتمكين جماعات الهيكل من تحقيق أحلامها بإقامة طقوس دينية يهودية داخل المسجد، في إطار مشروع أيديولوجي يرى في كل لحظة توتر فرصة لتوسيع النفوذ.
التحذيرات التي أطلقها عبد الله معروف بشأن “إفراغ المسجد من الحراس” تحذير منطقي في ضوء ما يحصل، فسلطات الاحتلال رفضت سابقًا تعيين حراس جدد، وهدّدت بطرد الموجودين، مما يجعل عملية الاقتحام الأخيرة جزءًا من مخطط تصعيدي يُمهّد لمزيد من التدخلات الإسرائيلية المباشرة داخل الأقصى، وربما لحماقة وشيكة تهدف إلى تغيير الوضع القائم دينيًا ومكانيًا.
الربط بين اقتحام الأقصى والهجوم الأميركي على إيران ليس مجرد مصادفة زمنية، بل هو استغلال سياسي محض للانشغال الإقليمي والعالمي، لتحقيق مكاسب ميدانية في ملف لطالما سعت سلطات الاحتلال إلى تسخينه كلما سنحت الفرصة. فإسرائيل تدرك أن كل مواجهة إقليمية تخلق بيئة مناسبة لتكريس سياسات جديدة على الأرض، والقدس دائماً في مرمى هذه السياسة.
رسالة سياسية ودينية
تتجاوز دلالات الاقتحام حدود الاعتقال أو التفتيش، لتطال ما هو أعمق: تفريغ الأقصى من هويته، وتطويعه بالقوة ليصبح ساحة نفوذ إسرائيلي مكشوف. وهو ما يُحتم على المقدسيين – كما دعا الشيخ عكرمة صبري – التمسك بحقهم في حماية المسجد، وعدم السماح بانزلاق الأمور نحو فرض التقسيم المكاني والزماني الذي تسعى إليه جماعات الهيكل.
في جوهره، يمثل هذا الاقتحام رسالة سياسية ودينية في آن واحد: اختبار لرد الفعل المقدسي والفلسطيني، وتجربة جديدة للتمدد داخل حدود المقدس. وهو جزء من مشروع متكامل لتغيير معالم القدس والهوية الإسلامية فيها، مستفيدًا من صمت المجتمع الدولي وانشغاله بمعارك أخرى.