في مؤشر واضح على التحوّلات العميقة التي يشهدها المشهد الإقليمي، أعلن وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني دخول بلاده في “مرحلة قوية” من التعاون مع المملكة العربية السعودية، مشيراً إلى أن زيارة الوفد السعودي ولقاءاته في دمشق تطرقت إلى ملفات متعددة، عكست اهتماماً سعودياً واسعاً بإعادة تموضع سوريا في الفضاء العربي، ليس فقط كدولة كانت معزولة، بل كدولة مرشحة لاستعادة دورها الإقليمي.
هذه التصريحات جاءت خلال مؤتمر صحافي مشترك مع نظيره السعودي الأمير فيصل بن فرحان، حيث بدا التناغم في الخطاب السياسي مؤشراً على انتقال العلاقات بين البلدين من مربع الاستكشاف الحذر إلى مربع الشراكة الفعلية. تصريحات الشيباني أكدت أن السعودية تدخل على خط “الاستثمار في الاستقرار السوري” في توقيت وصفه بـ”الحرج”، في إشارة إلى المرحلة الانتقالية التي تمر بها دمشق، خصوصاً بعد بدء انحسار موجات العقوبات الدولية وتبدّل المواقف الغربية من ملف إعادة الإعمار.
دعم سياسي واقتصادي في لحظة مفصلية
اللافت في مضمون المؤتمر الصحافي ليس فقط التأكيد على النوايا المشتركة، بل الإشارة إلى تحرّك استثماري سعودي وقطري مشترك لتقديم دعم مالي مباشر للعاملين في القطاع العام السوري، وهي خطوة قد تبدو رمزية من حيث حجم الدعم، لكنها تحمل ثقلاً سياسياً، ورسالة ضمنية إلى العواصم الغربية مفادها أن “إعادة تأهيل سوريا لم تعد رهينة الفيتو الغربي”.
الشيباني تحدث عن “استثمار نتائج تخفيف العقوبات”، ما يشير إلى أن الحكومة السورية تنظر إلى هذا الانفتاح العربي كفرصة عملية لتحسين الظروف المعيشية، لا مجرد تقارب دبلوماسي. ويرى مراقبون أن هذه اللغة تؤشر إلى مقاربة سورية براغماتية تسعى لتوظيف التحولات السياسية في المنطقة لصالح ترميم الاقتصاد الوطني وخلق فرص العمل، دون خوض صدامات جديدة مع القوى الدولية.
رؤية سعودية لمرحلة ما بعد العزلة
من جانبه، أعاد الوزير السعودي التأكيد على التزام المملكة برؤية شاملة “لسوريا الجديدة”، وفق تعبيره، وأشار إلى أن لقاءه مع الرئيس السوري أحمد الشرع ركّز على فرص التعاون الثنائي، وعلى ما وصفه بـ”الدور الطبيعي لسوريا في الإقليم”. هذا الخطاب ينسجم مع سياسة الرياض في تعويم النظام السوري ضمن توازنات إقليمية جديدة، تتجاوز عقدة الحرب الأهلية، وتراهن على عودة الاستقرار كشرط لاحتواء الفوضى المتنقلة في المنطقة.
تصريحات بن فرحان، لا سيما حديثه عن توجيهات ولي العهد بدعم سوريا بكافة السبل، تؤكد أن القرار السعودي يتجاوز التنسيق الدبلوماسي إلى خطة دعم واضحة تسعى لتقوية مؤسسات الدولة السورية، في محاولة لقطع الطريق على مشاريع موازية تعبث بالهياكل الرسمية، سواء كانت مشاريع انفصالية، أو ميليشياوية، أو حتى تدخلات إيرانية غير منضبطة.
إعادة تموضع إقليمي وسط ارتخاء قبضة العقوبات
المفارقة البارزة في هذا التحوّل ليست فقط في توقيته، بل في تزامنه مع إعلان أمريكي-أوروبي بشأن رفع تدريجي للعقوبات، وهو ما اعتبرته الرياض لحظة مواتية للتحرّك باتجاه دمشق دون صدام مع واشنطن. الوزير السعودي حرص على الإشادة بهذا الإعلان، ما يعني أن السعودية تتحرك ضمن هامش دبلوماسي مدروس، لا يفك ارتباطها بالحلفاء الغربيين، بل يوظف تحولاتهم لصياغة دور جديد في ملف كان إلى وقت قريب محظوراً دبلوماسياً.
ورغم أن هذا التقارب ما يزال في مراحله الأولى، إلا أن دخوله مباشرة في ملفات اقتصادية، وإطلاق وعود بدعم مؤسسي، يشير إلى أن الرياض لم تعد ترى في سوريا “أرضاً محروقة”، بل ساحة محتملة لإعادة التوازن، ولعلها تسعى إلى أن تكون عرّابة هذا التحوّل.
مستقبل العلاقة: دعم مشروط أم شراكة استراتيجية؟
ما بين سطور المؤتمر الصحافي، تبدو العلاقة بين دمشق والرياض في طور التأسيس لتفاهمات طويلة الأمد. لكن الرؤية السعودية تبدو مشروطة بنجاح الدولة السورية في استعادة مركزية القرار، وتوفير بيئة آمنة للتعاون الاقتصادي. أما دمشق، فهي تراهن على هذه الشراكة لإعادة تدوير شرعيتها، محلياً ودولياً، عبر التحالف مع قوى إقليمية وازنة.
وفي كل الأحوال، فإن ما بدأ بخطوات دبلوماسية محسوبة، بات اليوم يتجه نحو إعادة تشكيل خارطة التحالفات في المنطقة، حيث تستعيد العواصم التقليدية أدوارها في ضبط الإيقاع، وتستعد سوريا – وفق هذا التصور – للعودة إلى ملعب السياسة لا كساحة صراع، بل كفاعل محتمل.