تُواصل السلطة الفلسطينية بذل جهود كبيرة على الصعيدين الإنساني والدبلوماسي في سبيل التخفيف من الكارثة التي يعيشها قطاع غزة، والتي تتفاقم منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي في أكتوبر 2023. وفي خطوة تعكس تنسيقاً سياسياً وإنسانياً دقيقاً، تسلم وزير الاقتصاد الوطني الفلسطيني محمد العامور منحة قمح مقدّمة من الحكومة الروسية والرئيس فلاديمير بوتين، مخصصة بالكامل لأهالي القطاع الذين يواجهون شبح المجاعة، في ظل انهيار المنظومات الصحية والغذائية.
مسار دبلوماسي
تأتي هذه المنحة، البالغة ثلاثين ألف طن من القمح، في توقيت بالغ الحساسية، حيث بات انعدام الأمن الغذائي إحدى أخطر تجليات الحرب، مع تقييد الاحتلال لدخول المساعدات، ودمار البنى التحتية التي يعتمد عليها المدنيون في تلبية أبسط مقومات حياتهم. وفي هذا الإطار، شكّلت المبادرة الروسية متنفساً حقيقياً أمام السلطة الفلسطينية، التي سرعان ما باشرت التنسيق اللوجستي والإداري لضمان تحويل القمح إلى دقيق، وتوزيعه فوراً في غزة، وفق آلية إنسانية شفافة ومباشرة.
ولم تكن هذه الخطوة منفصلة عن مسار دبلوماسي تعمل فيه السلطة الفلسطينية بصبر ومثابرة على ترسيخ شبكة علاقات دولية داعمة، خاصة مع القوى الكبرى ذات التأثير في قرارات مجلس الأمن والنظام الدولي. العلاقة مع روسيا، كما عبّر عنها الوزير العامور والسفير الروسي في رام الله، ليست آنية أو ظرفية، بل تستند إلى تاريخ طويل من الدعم السياسي والاقتصادي، وشراكة متوازنة تنحاز للحق الفلسطيني ضمن رؤية قائمة على القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية.
السلطة لم تتخلّ عن مسؤوليتها
هذه التحركات تأتي في وقت تُظهر فيه السلطة الفلسطينية نضجاً سياسياً في إدارة المعركة على الجبهتين: فبينما تسعى في الداخل لتوفير ما يمكن من مقومات الصمود لأهالي غزة، تحشد في الخارج مواقف داعمة لوقف إطلاق النار، ومحاسبة الاحتلال على جرائمه، وتثبيت الحق الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة. وهذا التوازن بين البعد الإنساني العاجل والبعد السياسي الاستراتيجي يُعد من أبرز مؤشرات فعالية الأداء الفلسطيني الرسمي، خاصة بعد الانفتاح الواسع الذي شهدته علاقات رام الله مع قوى إقليمية ودولية في الأشهر الأخيرة.
كما أن رسالة الوزير العامور في وصف المنحة بأنها “بلسم للجرح النازف”، لم تكن مجرد تعبير عاطفي، بل اختزال لحجم المعاناة التي يُكابدها الفلسطينيون في غزة، وللرمزية التي تمثلها هذه المساعدات كدليل على أن السلطة لم تتخلّ عن مسؤوليتها، رغم القيود الهائلة التي تفرضها الظروف السياسية والميدانية.
في المقابل، فإن هذه الجهود تضع المجتمع الدولي أمام اختبار حقيقي. فالسلطة الفلسطينية لا تكتفي بالمناشدات، بل تتحرك بفعالية، وتدعو الأطراف المؤثرة إلى تحمّل مسؤولياتها في وقف الإبادة الجماعية، وإلزام إسرائيل بالقانون الدولي. وهنا تظهر أهمية أن تجد هذه الجهود آذاناً صاغية، خصوصاً من الدول الغربية التي لا تزال تراوح بين دعم لفظي لوقف إطلاق النار، وتغاضٍ فعلي عن الانتهاكات التي تُرتكب على الأرض.
التحالفات الإنسانية والسياسية
وفي ظل تفكك المشهد الإقليمي، واستمرار التعقيدات في ملف إعادة الإعمار والمساعدات، تبقى قدرة السلطة الفلسطينية على بناء شراكات إنسانية فاعلة مع قوى كبرى مثل روسيا خطوة ذات بُعد مزدوج: فهي تسهم في إغاثة الناس مباشرة، كما تعزز الحضور السياسي الفلسطيني على الساحة الدولية.
إن هذا المشهد برمته يُظهر أن السلطة الفلسطينية تتحرك ضمن رؤية شاملة، تُبقي عيونها على الشعب الفلسطيني تحت الحصار، وتُدير ملفات الدبلوماسية الدولية بحنكة، في وقت بات فيه التعويل على التحالفات الإنسانية والسياسية من أبرز أدوات الصمود، في مواجهة آلة الدمار والتجويع التي تقودها إسرائيل.