أعلنت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل متزامن عن رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا، بعد سنوات طويلة من العزلة الدولية والحصار الاقتصادي. هذه الخطوة، التي جاءت بعد التحولات الجذرية في المشهد السياسي السوري عقب سقوط النظام السابق، مثّلت عند كثيرين بارقة أمل وبداية فعلية لمسار إعادة الإعمار والاندماج في المنظومة الدولية.
ردود الفعل في الشارع السوري لم تتأخر؛ فقد استُقبل القرار الغربي بترحيب واسع، باعتباره أول انفراج اقتصادي حقيقي منذ أكثر من عقد. المواطنون الذين أرهقتهم سنوات الحرب والعقوبات وجدوا في هذا التطور فسحةً من الأمل، ربما تُمهد لاستعادة الاستقرار وتحريك عجلة الإنتاج والتوظيف والخدمات. لكن خلف هذا التفاؤل، تسود مقاربات أكثر حذرًا لدى الأوساط السياسية والاقتصادية التي تنبّه إلى أن رفع العقوبات، رغم أهميته، لن يكون كافيًا بمفرده للنهوض بسوريا المنهكة، ما لم يترافق مع إصلاحات جذرية تطال بنية الدولة نفسها.
فالمعطيات على الأرض تشير إلى واقع بالغ التعقيد: مؤسسات متهالكة، اقتصاد هش، طبقات اجتماعية مسحوقة، وبيئة أمنية غير مستقرة. ويزيد من تعقيد المشهد استمرار الفساد العميق الذي ينخر مؤسسات الدولة، إضافة إلى تراكم آثار الصراع الطويل، سواء من حيث التهجير أو الخسائر في البنية التحتية أو الفجوات المجتمعية التي خلّفها الاحتراب الداخلي.
في هذا السياق، تبدو الحاجة ماسة إلى إعادة تعريف أولويات المرحلة المقبلة، فليست العقوبات وحدها ما كان يمنع النهوض، بل إن غياب الإرادة السياسية الحقيقية لإصلاح نظام الحكم وتوسيع دائرة المشاركة الوطنية لعب دورًا مركزيًا في تعميق المأساة. وقد خلصت تجارب دول أخرى عانت من حروب وانقسامات داخلية إلى أن أي تعافٍ اقتصادي لا يمكن فصله عن شروط التعددية السياسية، وبناء مؤسسات ضامنة، وإعادة الثقة بين الدولة والمجتمع.
ومع أن الخطوة الغربية الجديدة قد تُسهم في تسهيل تدفق المساعدات، وجذب استثمارات أولية إلى بعض القطاعات، خصوصًا الصحة والتعليم والبنية التحتية، إلا أن أي رأس مال دولي سيظل مترددًا أمام بيئة تفتقر إلى سيادة القانون، وضمانات الشفافية، واستقلالية القضاء. كما أن تعقيد المشهد السوري الداخلي، بوجود قوى أمر واقع، وتوازنات عسكرية هشة، يجعل من مسار إعادة الإعمار تحديًا يتجاوز الحسابات المالية، ليمس جوهر التوافق الوطني نفسه.
إلى جانب ذلك، فإن الاستجابة لرفع العقوبات يجب ألا تكون فقط عبر مشاريع اقتصادية، بل من خلال حزمة شاملة من الإصلاحات تبدأ بإطلاق حوار وطني واسع يشمل جميع مكونات الشعب السوري، وبناء عقد اجتماعي جديد يعيد الاعتبار للمواطنة والعدالة، ويكسر احتكار السلطة الذي كان أحد أبرز أسباب انهيار الدولة.
إن لحظة رفع العقوبات قد تُعدّ فرصة نادرة لإعادة رسم مستقبل سوريا، لكنها تظل لحظة عابرة ما لم تُواكب بإرادة داخلية لإعادة التأسيس. فسوريا الجديدة، التي يتطلّع إليها السوريون، لن تولد من قرارات خارجية فقط، بل من عملية شاقة وطويلة من إعادة بناء الثقة، وتصفية رواسب الصراع، وصياغة رؤية وطنية تستجيب لتطلعات الناس لا لمصالح النخب.
وهكذا، فإن الاحتفاء الشعبي برفع العقوبات يجب أن يُقابل بخطة وطنية واضحة، تتجاوز خطاب النوايا، وتؤسس لمرحلة يكون فيها الأمن حقًا للجميع، والتنمية متاحة لكل السوريين، والسياسة مجالًا للمشاركة لا للاحتكار. حينها فقط يمكن الحديث عن نهوض حقيقي، لا عن هدنة مؤقتة في ظل دمار طويل.