أطلق الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، مارك روته، تصريحًا لافتًا يدعو فيه إلى قفزة غير مسبوقة في الإنفاق الدفاعي والصاروخي للدول الأعضاء في الناتو، مقترحًا زيادة تصل إلى 400% في قدرات الدفاع الجوي والصاروخي، ورفع الإنفاق العسكري إلى ما لا يقل عن 5% من الناتج المحلي الإجمالي.
هذه الدعوة، التي بدت للبعض مجرد صدى لصوت المجمع الصناعي العسكري الغربي، حملت في طياتها ما هو أعمق من مجرد هوس بالتسلح. إنها بمثابة اعتراف صريح بأن الحلم الذي واكب انهيار الاتحاد السوفيتي، والمتمثل في نهاية التهديد النووي وتفرّغ العالم للديمقراطية والتنمية، لم يكن سوى هدنة مؤقتة أُهدرت في مغامرات عسكرية فاشلة، من كابول إلى بغداد.
بين الأمس واليوم: كيف أضاع الغرب مكاسب ما بعد السوفييت؟
في خطابه، أكد روته أن “الأمن لا يتحقق بالتمني”، مشددًا على أن الحلف بحاجة إلى “تحالف أقوى، وأكثر عدلاً، وأشد فتكًا”، في لغة تعيد إلى الأذهان مفردات الحرب الباردة التي كانت تُستخدم لتبرير ميزانيات دفاعية ضخمة في مواجهة “العدو الأيديولوجي”. لكن هذا العدو لم يختفِ، بل اتخذ لنفسه أشكالًا جديدة في موسكو وبكين، ويمضي الآن ليكسب أنصارًا في عواصم غربية، وفق ما يرى البعض، في ظل صعود الشعبويات والاستبداد الانتخابي.
وقد أظهرت الحروب الأخيرة، من غزو العراق إلى انسحاب أميركا من أفغانستان، أن الغرب لم يستثمر فائض القوة في بناء نظام عالمي أكثر استقرارًا. بل على العكس، أدى التورط في صراعات طويلة الأمد إلى تآكل الثقة في القيم الليبرالية، ومنح خصومها – مثل بوتين وشي جينبينغ – مساحة لترويج نموذجهم السلطوي. أما دونالد ترمب، فقد بدأ فعليًا بترسيخ نمط أميركي خاص من “الاستبداد الديمقراطي”، ما يُنذر بأن الانقسام العالمي لم يعد بين الشرق والغرب، بل بين الداخل والخارج، حتى داخل الحلفاء أنفسهم.
الناتو يعيد التموضع: ما بعد أوكرانيا ليس عودة إلى ما قبلها
يشدد روته على أن الخطر لن ينتهي حتى بعد توقف الحرب في أوكرانيا، في إشارة إلى أن المواجهة مع روسيا، حتى وإن خمدت نيرانها العسكرية، ستبقى قائمة كتهديد وجودي يستدعي التحضير الدائم. ومن هذا المنطلق، فإن “القفزة الدفاعية” التي يدعو لها ليست استجابة ظرفية، بل محاولة لتأسيس عقيدة أمنية دائمة لما يُعرف الآن بـ”أوروبا ما بعد الحرب الأوكرانية”.
لكن في خلفية هذا الطرح، ثمة تساؤلات مزعجة: هل يمكن لديمقراطيات العالم أن تبرر لشعوبها إنفاق 5% من ناتجها المحلي على الدفاع في ظل أزمات اقتصادية، وتراجع رفاه اجتماعي، وتضخم عالمي؟ وهل العالم بحاجة فعلًا إلى “تحالف أشد فتكًا” أم إلى إصلاح النظام العالمي وتجنب تكرار الكوارث التي أشعلتها تدخلات الغرب في الجنوب العالمي؟
شبح الحرب الباردة: استدعاء للذاكرة لا للتاريخ
الحنين إلى أيام الردع النووي المتبادل يبدو واضحًا في خطابات الناتو الأخيرة. فخلال الحرب الباردة، كان ميزان الرعب النووي يحافظ على سلام هشّ بين القوى الكبرى، في حين كانت الحروب تُدار بالوكالة في بلدان ما كان يُسمى بـ”العالم الثالث”. من أنغولا إلى فيتنام، ومن نيكاراغوا إلى أفغانستان، دفعت الشعوب ثمن الانقسام الأيديولوجي دون أن تختار اصطفافاتها.
وفي أميركا اللاتينية، حيث أطاحت انقلابات مدعومة من وكالة الاستخبارات الأميركية بحكومات منتخبة، بدعوى الخطر الشيوعي، تُركت الديمقراطية نفسها ممزقة بين التدخل الخارجي والاستبداد المحلي. ولعل أزمة الصواريخ الكوبية كانت لحظة الذروة في هذا الجنون النووي، حينما اقتربت واشنطن وموسكو من إشعال حرب عالمية ثالثة بسبب حسابات القوة والرعب المتبادل.
خاتمة: العودة إلى السلاح… عجز سياسي أم حتمية أمنية؟
ما يطرحه روته ليس مجرّد مرافعة دفاعية، بل استباق لتحول تاريخي في بنية النظام العالمي. فالدعوة إلى مضاعفة الإنفاق الدفاعي ليست ناتجة فقط عن تهديد روسيا أو طموحات الصين، بل عن شعور غربي عميق بأن الهيمنة على العالم لم تعد مضمونة، وأن “نهاية التاريخ” التي بشر بها الغرب في التسعينيات، قد تكون بدأت تنقلب عليه.
لكن المشكلة لا تكمن فقط في من يملك الصواريخ أكثر، بل في من يملك رؤية للعالم أقل. وإذا استمر الغرب في معالجة التهديدات بالموازنات العسكرية وحدها، دون مراجعة حقيقية للأخطاء السياسية والاختلالات الاقتصادية، فإننا لا نبتعد عن الحرب الباردة، بل نُعيد إنتاجها بوجوه جديدة وساحات أوسع.