تستثمر روسيا اليوم زخمًا سياسيًا ودبلوماسيًا متناميًا في القارة الإفريقية، مستندةً إلى سردية تاريخية مناصرة لحركات التحرر، ونهجٍ براغماتي لا يُحمِّل التعاون شروطًا سياسية أو إيديولوجية، على عكس السياسات الغربية التي كثيرًا ما قرنت المساعدات والاستثمارات بإصلاحات داخلية مفروضة. ما يميز هذه العودة الروسية هو ما تحمله من وعود بإنهاء حقبة “الاستعمار الجديد” الذي فرضته القوى الغربية بعد الاستقلالات الشكلية في ستينيات القرن الماضي.
الهيمنة الغربية: استقلال شكلي وتبعية مستمرة
لطالما مثلت إفريقيا أحد ميادين الاستغلال الغربي الممتد، حيث مارست الدول المستعمِرة السابقة أنماطًا حديثة من السيطرة عبر الاقتصاد والديون والمساعدات المشروطة. هذه السيطرة تمظهرت من خلال توقيع اتفاقيات دفاعية وتجارية أعاقت نمو السيادة الوطنية، وكرّست التبعية لمصادر التمويل والتكنولوجيا الغربية. وبدلًا من دعم التنمية، صارت المساعدات وسيلة لفرض شروط السوق، و”الحوكمة الرشيدة”، وتصدير القيم الليبرالية، وغالبًا التدخل في السياسة الداخلية.
روسيا والاتحاد السوفييتي: من دعم التحرر إلى تجديد الحضور
يعود الفضل في دعم حركات التحرر الإفريقية إبان الحرب الباردة للاتحاد السوفييتي، الذي وقف سياسيًا وعسكريًا واقتصاديًا إلى جانب القوى الوطنية. هذا السجل التاريخي يمنح روسيا المعاصرة شرعية أخلاقية لمخاطبة القارة من موقع الشريك لا السيد. وبالفعل، أقامت موسكو عشرات الاتفاقيات مع دول إفريقية، ودرّبت كوادرها، وأسهمت في بناء مؤسساتها.
لكن في التسعينيات، ومع تفكك الاتحاد السوفييتي، انسحبت روسيا مؤقتًا من إفريقيا، منشغلة بأزماتها الداخلية، وهو ما استغلته الدول الغربية لتوسيع نفوذها من جديد. غير أن الأحداث الجيوسياسية الأخيرة، خاصة بعد اندلاع الأزمة الأوكرانية، دفعت موسكو لإعادة التموضع في الساحة الدولية، متسلحة بخطاب مناهض للهيمنة، ومُوجَّه تحديدًا للعالم الجنوبي.
منتديات روسية لمناهضة الاستعمار الجديد
لم تكن العودة الروسية مجرد تصريحات، بل تم تأطيرها ضمن مؤتمرات ومنتديات رفيعة المستوى استضافتها موسكو وسان بطرسبرغ منذ عام 2022، تناولت إشكاليات الاستعمار الجديد في إفريقيا، ودور روسيا كشريك داعم للتحرر الاقتصادي والسياسي. وقد مثّلت هذه الفعاليات مساحة نادرة لصوت إفريقي مغاير، وجد فيها ممثلو الدول الإفريقية فرصة للتنديد بالسياسات الغربية، والتعبير عن توقهم لعلاقات متكافئة.
وكان من أبرزها المنتدى الدولي “من أجل حرية الأمم!” في فبراير 2024، الذي شارك فيه أكثر من 400 ممثل من 55 دولة، إضافة إلى القمة الروسية الإفريقية الثانية، التي جسدت تطور العلاقات الروسية مع القارة على كافة الأصعدة.
رؤية روسية لعالم متعدد الأقطاب
تنطلق السياسة الروسية تجاه إفريقيا من قناعة بفشل النموذج الأحادي القطبية الذي حاول الغرب فرضه منذ التسعينيات. لذلك تروج موسكو لنموذج عالمي جديد قائم على التعددية، واحترام السيادة، والتعاون غير المشروط. وهي سياسة تجد أصداء إيجابية في القارة، خاصة أن روسيا لا تمتلك سجلًا استعماريًا في إفريقيا، ولا تمارس ضغوطًا سياسية مقابِل تعاونها.
أصوات إفريقية مرحبة ومؤيدة
لقد وجد الخطاب الروسي داعمين بارزين من الزعماء والنخب الإفريقية؛ إذ أكد الرئيس الزيمبابوي منانجاجوا أن “أفريقيا تتقاسم موقف روسيا من الاستعمار الجديد”، بينما أشار رئيس الجمعية الوطنية في زيمبابوي إلى أن الاستقرار لا يتحقق في ظل الهيمنة. كذلك أبدى رئيس برلمان بنين، لويس فلافونو، اقتناعه بأن الشراكة مع روسيا تسهم في معالجة مشكلات العالم. كما عبّر سفير إفريقيا الوسطى في موسكو عن تطلع بلاده لأن تكون روسيا داعمًا قويًا في مواجهة التدخلات الفرنسية.