تشهد تركيا خلال الأشهر الأخيرة سلسلة من الزلازل المتتالية، كان آخرها الهزة الأرضية التي ضربت يوم الاثنين سواحل مدينة مرمريس جنوب غرب البلاد، وبلغت قوتها 5.8 درجة على مقياس ريختر. ورغم أن مركز الزلزال كان بحريًا، إلا أن تداعياته طالت السكان بشكل مباشر، إذ أسفر عن وفاة فتاة نتيجة حالة الهلع، إضافة إلى إصابة 69 شخصًا بجروح، في مشهد يعكس تصاعد الخوف الشعبي من الزلازل، حتى تلك التي لا تُحدث دمارًا ماديًا كبيرًا.
لكن الهزة التي دفعت بالقلق إلى مستوى جديد كانت تلك التي ضربت إسطنبول يوم 23 أبريل الماضي، بقوة بلغت 6.2 درجات، وكان مركزها في عمق بحر مرمرة. لم تُسجّل خسائر كبيرة آنذاك، إلا أن الزلزال أيقظ في الوعي الجماعي للمدينة شبح الزلزال “الكبير” المنتظر، والذي ما زالت التقديرات الجيولوجية تشير إلى أنه قد يقع في أي لحظة خلال السنوات المقبلة.
نحو ربع مليون شخص غادروا إسطنبول خلال أسابيع
ما إن ضرب زلزال بحر مرمرة العاصمة الاقتصادية لتركيا حتى بدأت حركة نزوح جماعي غير مسبوقة. بيانات إدارة الكوارث والطوارئ التركية “آفاد” تشير إلى مغادرة أكثر من 225 ألف شخص ولاية إسطنبول، أي ما يعادل نحو 18.3% من سكان البلاد. هذه الهجرة الداخلية الطارئة تعكس حجم الفزع المتراكم، خصوصًا في ظل تواصل الهزات الارتدادية التي تجاوز عددها 300 حتى الآن.
ولا يمكن فصل هذه الموجة السكانية عن الحقائق الاقتصادية؛ فإسطنبول ليست مجرد مدينة ضخمة، بل تشكّل عصب الاقتصاد التركي، إذ تُسهم وحدها بما يقارب 30% من الناتج المحلي الإجمالي، أي نحو 8 تريليونات ليرة تركية. ومع ذلك، اختار عشرات الآلاف من السكان مغادرتها، مفضلين الأمان على القرب من فرص العمل والاقتصاد.
زلزال السوق العقاري: انهيار في مناطق الخطر وازدهار في مناطق الأمان
بالتوازي مع الهلع الشعبي، شهدت سوق العقارات التركية تحولات درامية. الأحياء القريبة من خطوط الصدع الجيولوجية، مثل إسنيورت، بويوك تشكمجة، وأفجيلار، شهدت انخفاضًا حادًا في أسعار الشقق والممتلكات. فقد باتت هذه المناطق، التي كانت في السابق وجهة مفضلة للطبقة المتوسطة والوافدين، محاصرة بمخاوف الزلزال المنتظر، وأضحت استثمارًا محفوفًا بالمخاطر.
في المقابل، ارتفعت أسعار العقارات في الأحياء التي توصف بأنها “آمنة زلزاليًا”، كمنطقتي سارير وبيكوز الواقعتين في الشمال الأوروبي من المدينة، والمبنيتين على أرض صخرية غير معرضة لاهتزازات قوية. وبدأت موجة جديدة من الطلب تستهدف مناطق مثل باشاك شهير، أرناؤوط كوي، وسارير، وهي أحياء داخلية بعيدة عن السواحل وخطوط التصدع، مما جعلها الملاذ الجديد للراغبين في الأمان.
شقة واحدة.. حلم بعيد المنال في المناطق الآمنة
بحسب تقرير نشرته قناة “إيكول تي في” التركية، فإن التحولات التي أحدثها الزلزال في سلوك المواطنين داخل السوق العقاري بلغت درجة “التحول الجذري”. ويشير الخبير العقاري شيناي أراش إلى أن الناس باتوا يبحثون بشكل محموم عن مساكن في المناطق غير الزلزالية، وهو ما أدى إلى ارتفاع الأسعار فيها بنسبة تراوحت بين 20% و25% خلال أسابيع قليلة فقط.
ومع تراجع عدد الإعلانات العقارية، وازدياد الطلب إلى مستويات غير مسبوقة، بات العثور على شقة صغيرة في إحدى هذه المناطق الآمنة أمرًا بالغ الصعوبة، بل ضربًا من التنافس الحاد. ولم يعد السوق يتفاعل وفق منطق العرض والطلب الكلاسيكي، بل بات محكومًا بمعادلة الخوف والنجاة، حيث يشتري الناس ليس بغرض الاستثمار أو الربح، بل للحفاظ على حياتهم.
زلزال إسطنبول القادم: هاجس لا يغيب عن الذاكرة
الزلازل في تركيا ليست ظواهر عرضية، بل حقائق جيولوجية ثابتة في بلد يقع على خط صدع نشط. ومع ازدياد الحديث في الأوساط العلمية والإعلامية عن “الزلزال الكبير” الذي يُتوقع أن يضرب إسطنبول في أي وقت، يبدو أن السكان باتوا يتعاملون مع الاحتمال كأنه واقع حتمي.
وفي ظل هذا السياق، لا تُعتبر حركة النزوح ولا تبدلات سوق العقارات إلا نتائج طبيعية لغياب الثقة في الإجراءات الوقائية، ولاستمرار البناء في مناطق الخطر دون رقابة كافية. فالهاجس لا يتعلق بالمباني فحسب، بل بالبنية التحتية ككل: من شبكات المواصلات، إلى المستشفيات، وحتى المدارس.