في قلب بيروت، في “السراي الكبير”، وقف الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام حرس الشرف اللبناني، يلوّح بيده، في مشهد يحمل أكثر مما يبدو على السطح من مراسم وبروتوكول. فزيارته إلى لبنان، في هذا التوقيت الدقيق، لا تُقرأ فقط على مستوى العلاقات الثنائية، بل هي رسالة مزدوجة الوجه: واحدة إلى الداخل الفلسطيني، وأخرى إلى العالم، مفادها أن فلسطين لا تزال تسعى لإثبات حضورها كدولة قائمة، رغم أن أرضها تحترق، وشعبها يُذبح، ومخيماتها تتنفس بصعوبة بين حصارين.
المخيمات الفلسطينية ليست نهاية الطريق
الزيارة، التي جاءت في خضم حرب مفتوحة على غزة، وتصعيد خطير في الضفة الغربية، تحمل دلالة رمزية وإنسانية وسياسية في آنٍ واحد. فأن يخرج رئيس دولة فلسطين من تحت رماد الحرب إلى دولة تعرف تمامًا معنى اللجوء والتهجير، يعني أنه يحمِل معه الوجع نفسه، لكنه يرفض أن يستسلم له.
لبنان، بالنسبة للفلسطينيين، ليس مجرد دولة مجاورة، بل هو أحد شهود النكبة، وراوٍ أساسي لحكاية اللجوء الممتدة منذ 1948. وفي هذا السياق، كان تأكيد الرئيس عباس أمام رئيس الوزراء نواف سلام على أن الفلسطينيين في لبنان “ضيوف مؤقتون”، لا يحمل فقط احترامًا لسيادة الدولة اللبنانية، بل تذكيرًا أيضًا بأن المخيمات الفلسطينية ليست نهاية الطريق، بل محطة انتظار قاسية، نحو العودة.
زيارة عباس جاءت لتضع النقاط فوق الحروف في ملف حساس، لطالما كان شائكًا في العلاقة بين لبنان والفلسطينيين: ملف السلاح داخل المخيمات. في هذه المرحلة المشتعلة إقليميًا، بدا من المهم للرئيس الفلسطيني أن يؤكد مجددًا على دعم منظمة التحرير الفلسطينية الكامل لسيادة الدولة اللبنانية، وعلى أن لا سلاح خارج الشرعية اللبنانية، وأن الفلسطينيين لن يكونوا أداة بيد أي جهة لزعزعة استقرار بلد مضيف.
تشكيل جبهة عربية
لكن الزيارة كانت أيضًا محاولة لترميم الثقة، ولتأكيد أن ما يجري في غزة من مجازر ودمار، لن يكون مدخلًا لتصدير الفوضى إلى لبنان، بل على العكس، سببًا لتعزيز التعاون وتشكيل جبهة عربية موحدة في وجه الاحتلال. في الاجتماعات الأمنية والسياسية التي تلت اللقاء الثنائي، بدا واضحًا أن هناك توافقًا على ضرورة حماية المخيمات من الانجرار لأي اشتباك أو صراع جانبي، قد يدفع ثمنه الأبرياء.
في كلماته، بدا الرئيس الفلسطيني حريصًا على أن يُظهر احترامًا مضاعفًا للبنان، ليس فقط كدولة، بل كذاكرة. حين أشار إلى المبادرة العربية للسلام التي أُعلنت من بيروت في 2002، بدا وكأنه يُعيد إحياء دور لبنان كمركز لصناعة المواقف الكبرى، وليس فقط كبلد يعاني من أزمات متلاحقة.
الفلسطينيون يتمسكون بالدبلوماسية
وفي ختام الزيارة، حين جلس الرئيس على مائدة الغداء إلى جانب رئيس الوزراء اللبناني ومجموعة من كبار المسؤولين، لم تكن تلك لقطة مجاملة، بل إعلانًا رمزيًا أن فلسطين، رغم الدم، لا تزال قادرة على أن تكون شريكة، لا عبئًا. ضيفًا يحترم البيت الذي يستضيفه، لا مقيمًا يفرض وجوده بقوة الواقع.
إنها زيارة تقول إن الفلسطينيين رغم الجراح، لا يزالون يتمسكون بالدبلوماسية والعقلانية، يسعون لبناء الجسور لا حرقها، ويضعون الكرامة والسيادة في أعلى قائمة الأولويات، سواء تعلق الأمر بهم أو بمضيفيهم.
في زمن الحرب، تُصبح الزيارات السياسية أكثر من مجرد لقاءات، بل تحولات في السرد. وزيارة محمود عباس إلى بيروت ليست فقط حدثًا في دفتر العلاقات، بل فصلٌ آخر من حكاية وطن يسعى لأن يُحكى صوته، لا أن يُروى عنه فقط من الآخرين.