تعيش الولايات المتحدة اليوم حالة من الاستنفار الاستراتيجي في سباق الذكاء الاصطناعي مع الصين، سباق لا يتعلّق فقط بالتكنولوجيا وإنما بأمنها القومي ومكانتها في العالم. فوفقاً لتحذير مستشار الأمن القومي الأميركي جيك سوليفان في أكتوبر 2024، فإن الفشل في تسريع وتوسيع تبني الذكاء الاصطناعي قد يعني “تبديد التفوق الأميركي الذي تحقق بشق الأنفس”. من جهتها، لم تتأخر إدارة دونالد ترامب الثانية في إطلاق أولوياتها، معلنة عبر أمر تنفيذي هدفها بـ”الحفاظ على الهيمنة الأميركية وتعزيزها” في هذا المضمار.
هذا الإجماع بين صناع القرار الأمني وقادة الشركات التكنولوجية ومحللي السياسة يعكس إدراكًا بأن الذكاء الاصطناعي قد يكون مفتاح التفوق القادم أو نقطة الضعف التي يمكن للصين استغلالها.
استراتيجية مزدوجة: لجم الصين وتسريع الابتكار
اعتمدت واشنطن على استراتيجية ذات شقين: أولًا، خنق الطموحات الصينية من خلال تقييد تصدير المكونات الحساسة كأشباه الموصلات ومعالجات الذكاء الاصطناعي؛ وثانيًا، تسريع الابتكار المحلي عبر سياسات رقابية خفيفة، وتوجيه الاستثمارات في قطاعات البنية التحتية للطاقة والمعالجات الدقيقة، بالإضافة إلى دمج الذكاء الاصطناعي في الوكالات الفيدرالية، خصوصًا الدفاع والاستخبارات، في مجالات مثل تتبع الأمراض وكشف الاحتيال.
هذه الخطوات عززت حتى الآن تفوق الشركات الأميركية من حيث الأداء والحصة السوقية. لكن الزمن لا يقف في صالح أحد، فالصين تمضي قدمًا.
صعود المنافسة الصينية: الفجوة تضيق
السنوات الأخيرة كشفت عن قفزات نوعية للصين في مجال الذكاء الاصطناعي، بفضل شركات مثل “ديب سيك”، “علي بابا”، “بايدو” و”تينسنت”. هذا التقدم يثير القلق في أوساط صناع القرار الأميركي، إذ باتت النماذج الصينية تضيق الخناق على نظيرتها الأميركية، سواء من حيث القدرات أو الانتشار.
ولعل أكثر ما يُقلق واشنطن هو تكرار سيناريو شبكات الجيل الخامس، حين لم تتمكن من منافسة التفوق التجاري والتقني لشركة “هواوي”، واضطرت للرد بوسائل سياسية وعقابية دون أن تقدم بديلاً تقنياً فعالاً.
ما بعد الهيمنة: خُطط احتواء لا هزيمة
حتى في حال خسرت الولايات المتحدة موقع الصدارة، يمكنها التفاعل بذكاء مع المشهد الجديد، من خلال إعادة صياغة أدوات النفوذ التقنية بدلًا من الإصرار على تفوق لا يُضمن استمراره.
تشمل هذه الأدوات:
-
إنشاء أطر معيارية جذابة للأسواق الناشئة، ما يجعل النماذج الأميركية أكثر استقطابًا للمستخدمين حول العالم.
-
إتاحة مرونة أكبر للمطورين في اختبار النماذج والتنقل بينها بحرية، بعيدًا عن الأنظمة المغلقة.
-
بناء أنظمة شفافة للمقارنة بين النماذج، تساعد الشركات والمستهلكين على اتخاذ قرارات مبنية على الجودة لا الأيديولوجيا.
-
مشاركة البيانات الأميركية بصورة آمنة ومدروسة مع حلفائها والمطورين الموثوقين لتعزيز الابتكار التعاوني.
تفوق اليوم لا يضمن الغد
الذكاء الاصطناعي ليس مجرّد تكنولوجيا، بل هو بوابة للهيمنة الجيوسياسية والاقتصادية. وبينما تستمر الولايات المتحدة في قيادة هذا المضمار، فإن تفوقها لم يعد مضمونًا في ظل التقدم الصيني المتسارع. السباق لم يُحسم بعد، لكنه لم يعد يدور فقط حول من يصل أولًا، بل من ينجح في بناء نظام أكثر انفتاحًا واستدامة.
وفي هذا السياق، قد تكون واشنطن مطالبة ليس فقط بإنتاج أقوى النماذج، بل بقيادة العالم نحو بيئة ذكاء اصطناعي أكثر شفافية وتعاونًا وإنصافًا، وهذا ما قد يضمن لها النفوذ، حتى وإن لم تحتفظ بالهيمنة الكاملة.