يمرّ قطاع غزة اليوم بمرحلة إنسانية هي الأكثر خطورة في تاريخه المعاصر، حيث أصبح الجوع والمرض والحرمان من أبسط مقومات الحياة اليومية جزءاً من حياة مئات الآلاف من الفلسطينيين، في ظل حرب متواصلة منذ أكثر من 21 شهراً، تتجاوز حدود العمليات العسكرية إلى مستويات صارخة من الإبادة الجماعية والتجويع الممنهج.
المجاعة تفتك بالأبرياء
الواقع القائم لا يمكن وصفه بكونه كارثة إنسانية فحسب، بل هو نموذج تطبيقي لما يُعرَف بـ”سلاح التجويع” كوسيلة من وسائل الحرب، تُمارَس بشكل ممنهج ومقصود. يتجلى ذلك في شح المساعدات الغذائية والطبية، وتقييد إدخالها عبر المعابر، إلى جانب الفوضى التي تحيط بنقاط التوزيع، ما أدى إلى انتشار عصابات سرقة، وانهيار النظام العام، وتحول المواطنين إلى آخر خط للدفاع عن البقاء وسط الفوضى والمجاعة.
ما يحدث لأطفال غزة على وجه الخصوص هو مأساة متعددة الأبعاد. فالموت لم يأتِ نتيجة قصف أو انفجار فقط، بل بسبب غياب حليب الأطفال، وانعدام التغذية الكافية، وانهيار الرعاية الصحية. قصة الطفل نضال شراب، وغيره من الأطفال الرضع الذين توفوا خلال الأيام الأخيرة، تكشف أن المجاعة ليست احتمالًا مستقبليًا، بل حقيقة راهنة، تفتك يوميًا بحياة الأبرياء. هؤلاء الرضّع لم يُولدوا في ظروف الحرب فحسب، بل ولدوا في غياب الحد الأدنى من الأمل في الحياة.
تبرير الحصار
ما يزيد من فداحة الوضع هو عجز النظام الصحي عن الاستجابة، بسبب استهداف المستشفيات ونفاد الوقود والمستلزمات الطبية. لم تعد مستشفيات غزة مراكز علاج، بل تحولت إلى ساحات انتظار باردة للموت. وتشير أرقام منظمة الصحة العالمية إلى أن 112 طفلًا يدخلون المستشفيات يوميًا للعلاج من سوء التغذية، فيما لا يتوفر سوى 17 مستشفى يعمل جزئياً في القطاع بأكمله، في ظل غياب كامل للمرافق الطبية في شمال غزة ورفح.
المسؤولية الأخلاقية والقانونية لما يحدث لا تقع على الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل تمتد إلى كل من يتواطأ بالصمت، أو يحاول تبرير الحصار أو تعطيل وصول المساعدات. المؤسسات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة واللجنة الدولية للصليب الأحمر، مطالَبة اليوم بالخروج من مربع الإدانة إلى دائرة التدخل المُلزِم، إذ إن ما يجري لا يمثل انتهاكاً عادياً، بل جريمة ضد الإنسانية وفقًا لتعريف القانون الدولي.
الحديث عن وجود “مؤسسات إنسانية” مدعومة من الاحتلال، لا تملك حلولًا حقيقية، يزيد من تعقيد الأزمة ويعمّق الشعور الشعبي بانعدام الثقة تجاه المنظومة الدولية التي تبدو عاجزة، بل ومشاركة أحيانًا، في استمرار معاناة المدنيين. كذلك فإن مقتل أكثر من 500 فلسطيني أثناء محاولتهم الحصول على الطعام من نقاط توزيع المساعدات، يكشف حجم الفشل الذريع في تنظيم وتوفير المساعدات الآمنة.
الجوع أداة حرب
المأساة في غزة ليست فقط في عدد القتلى والمصابين، بل في فقدان الأمل، في صمت العالم، وفي أن يكون الجوع أداة حربٍ تُستخدم في القرن الحادي والعشرين دون رادع. إنها مرحلة من “الموت البطيء”، تُمارَس يوميًا بحق من لا يملكون دفاعًا، سوى صرخات أمهاتٍ منهكات، وآباء لا يستطيعون حتى المشي من فرط الجوع.
ما يجري في غزة هو اختبار أخلاقي وإنساني حقيقي للعالم بأسره. كل يوم تأخير في التدخل لوقف المجاعة، وفتح المعابر، وتأمين الغذاء والدواء، يعني مزيدًا من الأرواح التي تُزهق جوعًا لا قصفًا، وصمتًا يُدين الجميع. هذه ليست فقط معركة على البقاء، بل معركة على كرامة الإنسانية كلها.