تُشكّل تصريحات وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش بشأن غزة، والتي وصف فيها تدمير القطاع بالكامل ودعا إلى تهجير الفلسطينيين “بأعداد كبيرة”، تجسيدًا صارخًا لسياسة تطهير عرقي واستعمار استيطاني لم يعد يخفى على أحد. هذه التصريحات، المليئة بالعنصرية والتحريض، لا يمكن عزلها عن السياق العام للخطاب السياسي في إسرائيل، الذي أصبح أكثر تطرفًا مع صعود قوى اليمين المتشدد إلى مواقع القرار، بل تُعبّر بوضوح عن رغبة مبيتة في تغيير التركيبة السكانية لغزة بالقوة، تحت ذريعة الحرب.
سموتريتش، الذي سبق أن تباهى برغبته في “محو بلدة حوارة” بالضفة الغربية، يعيد تأكيد نهجه الإقصائي والفاشي من خلال دعوته هذه إلى تهجير سكان قطاع غزة، الذين يزيد عددهم عن 2.3 مليون إنسان، معظمهم من اللاجئين، في خرق فج لكل المواثيق الدولية والقانون الإنساني. الأخطر أن هذه التصريحات لا تُقابل من المجتمع الدولي إلا بصمت مخجل أو بيانات إدانة شكلية لا ترقى إلى مستوى الفعل السياسي أو القانوني الرادع، ما يشجّع الاحتلال على المضي في ارتكاب الجرائم دون خشية من المحاسبة.
من يملك محاسبة الاحتلال على جرائمه؟
الإجابة من الناحية النظرية واضحة؛ القانون الدولي، من خلال أدواته المتمثلة في محكمة الجنايات الدولية، ومجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة، يملك آليات قانونية لمساءلة المسؤولين الإسرائيليين عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. إلا أن هذه الآليات تظل مُعطّلة إلى حد كبير بسبب هيمنة الإرادات السياسية للدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، التي تستعمل حق النقض (الفيتو) لحماية إسرائيل من أي مسار مساءلة حقيقي.
المفارقة المؤلمة أن المجتمع الدولي، الذي تحرك سريعًا في أزمات أخرى وفرض عقوبات على أنظمة اقترفت انتهاكات مشابهة أو أقل، لا يزال متردّدًا بل ومتواطئًا حين يتعلق الأمر بفلسطين. وهذا يُظهر خللاً أخلاقيًا صارخًا في النظام العالمي، حيث العدالة تُطبّق وفقًا للمصالح، لا المبادئ.
ومع ذلك، هناك أدوات أخرى للمحاسبة وإن كانت بطيئة. جهود منظمات حقوق الإنسان، سواء الدولية مثل “هيومن رايتس ووتش” و”العفو الدولية”، أو الفلسطينية مثل “الميزان” و”الحق”، تواصل توثيق الانتهاكات وتحريك القضايا أمام المحكمة الجنائية الدولية. كذلك، يملك المجتمع المدني الدولي، من خلال حركات المقاطعة (BDS) والضغط الشعبي والإعلامي، دورًا فاعلًا في فضح جرائم الاحتلال والضغط على الحكومات للتحرك.
مشروع ممنهج للإبادة والتهجير
إن ما يجري اليوم في غزة، وتصريحات سموتريتش تحديدًا، يجب ألا تُقرأ فقط كمجرد تعبير عن جنون سياسي أو تطرف فردي، بل كجزء من مشروع ممنهج للإبادة والتهجير القسري، يُنفذ بدعم وإرادة من مؤسسات الدولة الإسرائيلية. وغياب المحاسبة الحقيقية لا يُضعف فقط القضية الفلسطينية، بل يهدد الأسس التي يقوم عليها القانون الدولي المعاصر، ويُحوّله إلى أداة انتقائية يستخدمها الأقوياء حين يشاؤون ويُعطّلونها حين تُهدّد حلفاءهم.
الصمت اليوم ليس حيادًا، بل تواطؤ. والمسؤولية الأخلاقية والقانونية تقع على عاتق كل من يملك التأثير – دولًا، شعوبًا، ومؤسسات – لإنهاء هذا الظلم التاريخي المستمر منذ عقود.