منذ نهاية حكم بشار الأسد أواخر العام الماضي، تشهد العلاقات الأردنية السورية مسارًا متسارعًا نحو التعافي، بعد قطيعة طويلة فرضتها سنوات الأزمة السورية التي اندلعت في 2011. عادت دمشق إلى الواجهة الإقليمية بشخصية سياسية جديدة ونظام يختلف في أسلوبه وتوجهاته عن النظام السابق، وهو ما أتاح لعمان، التي لطالما كانت حذرة في التعاطي مع الشأن السوري، أن تبدأ بإعادة ضبط البوصلة على قاعدة “التعامل مع الواقع الجديد”، وفتح قنوات للتنسيق الثنائي تعكس نضوجًا سياسيًا يتجاوز الشعارات والمواقف المتشددة التي طبعت السنوات الماضية.
الخطوة الأردنية نحو دمشق ليست معزولة عن السياق الإقليمي والدولي. فرفع الحظر الأوروبي الجزئي وتعليق العقوبات الاقتصادية الأميركية عن سوريا، وفّرا هامشًا من التحرك السياسي لعمان وغيرها من العواصم العربية، للدخول في شراكات اقتصادية وتجارية جديدة مع الدولة السورية، دون الاصطدام بجدار العقوبات. لكن الأردن، بخلاف غيره، يملك على الأرض مصالح مباشرة وحدودًا مشتركة، ما يجعل تطبيع العلاقات مع سوريا ضرورة أكثر منه خيارًا سياديًا.
وقد شهد هذا التقارب تطورًا ملموسًا خلال الأيام الماضية، من خلال زيارة فنية واسعة النطاق ترأسها وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي إلى دمشق، بصحبة وزراء الطاقة والنقل والتجارة، وهو وفد لا يمكن وصفه بالبروتوكولي، بل يعكس انتقال العلاقات إلى مستوى التنفيذ العملي لمشاريع واتفاقيات. ويؤكد هذا المسار الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الملك عبد الله الثاني والرئيس السوري أحمد الشرع، والذي اعتُبر بمثابة خطوة لتذليل العقبات التي اعترضت طريق اللجان الفنية، ومؤشرًا على وجود قرار سياسي بدفع العلاقات نحو العمق.
في خلفية هذه الدينامية، تقف المصالح الثنائية حافزًا جوهريًا للتقارب. فالأردن يعاني من فائض في إنتاج الكهرباء بعد تعثر الربط الكهربائي مع العراق، ويرى في سوريا المستقرة ممرًا محتملًا لتصريف هذا الفائض إلى لبنان عبر الربط الشبكي، وهو ما سيعزز موقعه كمركز إقليمي للطاقة. في المقابل، تحتاج عمان إلى حصة مائية كانت متفقًا عليها منذ سنوات مع دمشق، لكنها لم تصل بشكل منتظم نتيجة ظروف الحرب، وهي حصص من مياه سد الوحدة وحوض نهر اليرموك تمثل أهمية استراتيجية للأمن المائي الأردني.
كما أن التعاون في ملف النقل والشحن بين البلدين سيكون له أثر مباشر في تنشيط الاقتصاد الأردني، الذي يعتمد جزئيًا على مرور البضائع إلى سوريا ولبنان، حيث يمكن للمعابر الحدودية أن تعود إلى لعب دورها الطبيعي في ربط الأردن بعمقه الشمالي.
لكن رغم هذه الآفاق، تبقى التحديات الأمنية الأكثر إلحاحًا من وجهة النظر الأردنية، وعلى رأسها ملف تهريب المخدرات. إذ تحولت الحدود الأردنية السورية، خلال السنوات الماضية، إلى بؤرة ساخنة بفعل تنامي نشاط شبكات التهريب المحمية من الفرقة الرابعة التابعة لماهر الأسد، وميليشيات مرتبطة بإيران وحزب الله. وقد خاضت القوات المسلحة الأردنية اشتباكات عنيفة مع مهربين، في ظل ما تقول عمان إنه “استنزاف دائم للموارد والطاقات الأمنية”، أدى إلى سقوط ضحايا من جنودها على طول حدود يتجاوز طولها 370 كلم.
ومع تغيّر موازين القوى في سوريا، وانحسار قبضة تلك الميليشيات عن بعض المناطق، ترى عمّان أن الفرصة أصبحت مواتية لفرض معادلة أمنية جديدة، تقوم على التنسيق المباشر مع الدولة السورية، بدلًا من الاكتفاء بسياسة الردع من طرف واحد. ومع هذا الانفتاح، فإن الأردن حريص على أن تُدرج مكافحة تهريب المخدرات ضمن أولويات التعاون الثنائي، لا كقضية عابرة بل كشرط لاستمرار الشراكة.
التحول اللافت في المشهد لا يكمن فقط في نبرة الدبلوماسية الأردنية أو تحركاتها الفنية، بل في الاعتراف الفعلي بوجود سلطة سورية جديدة قادرة على الالتزام بالاتفاقيات وتحقيق الاستقرار. لم يعد هناك مجالٌ للحديث عن “النظام السوري” بوصفه طرفًا غير شرعي، بل هناك اليوم واقعية سياسية فرضتها التحولات الميدانية والفراغات الإقليمية، دفعت بعمان إلى التعامل مع دمشق بندّية ومسؤولية.
إن المسار الأردني تجاه سوريا يشكل نموذجًا لنهج عربي قائم على المصالح لا على الأيديولوجيا، وعلى الواقعية لا على الأحكام المسبقة. ومع أن التحديات لا تزال قائمة، خصوصًا في الملفات الأمنية والاقتصادية، إلا أن لغة المصالح المشتركة بدأت تفرض نفسها بقوة، وتعيد رسم العلاقة الأردنية السورية على أسس أكثر توازنًا ووضوحًا.