بدأت ملامح انفتاح دبلوماسي جديد تتشكل في الأفق، وسط تقارير عن محادثات مباشرة وغير مسبوقة بين دمشق وتل أبيب. الحكومة السورية، بقيادة الرئيس أحمد الشرع، تبدو مصمّمة على إعادة تشكيل السياسة الخارجية للدولة، انطلاقاً من براغماتية سياسية تسعى إلى إخراج سوريا من عزلتها، ووقف نزيف الحرب والتدخلات الإقليمية والدولية في ملفها الداخلي.
منذ مطلع عام 2025، بات الخطاب الرسمي الصادر من دمشق أكثر انفتاحاً وواقعية، خصوصاً في تعاطيه مع التهديدات الإسرائيلية المتكررة. فمع انشغال النظام الجديد بتثبيت سلطته على الأرض، وتحقيق نوع من الاستقرار الأمني والسياسي، جاءت الهجمات الإسرائيلية – التي تخطت سقف سبعمئة غارة منذ ديسمبر الماضي – لتشكّل تحدياً خطيراً أمام مشروع إعادة الإعمار وترميم مؤسسات الدولة، ما جعل خيار التهدئة مع إسرائيل موضوعاً قيد البحث الجاد، لا مجرد مادة للخطابة السياسية.
التحول الأكثر لفتاً للانتباه تمثل في تسريبات وكالة “رويترز” التي كشفت عن عقد اجتماعات مباشرة بين مسؤولين سوريين وإسرائيليين، داخل مناطق حدودية تسيطر عليها تل أبيب، وهو ما يشكل سابقة في تاريخ العلاقات غير الرسمية بين الطرفين. مصادر الوكالة، التي تحدثت شريطة عدم كشف هويتها، أكدت أن الاجتماعات هدفت إلى تخفيف حدة التوتر ومنع انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة، وجرى معظمها بإشراف المسؤول الأمني السوري أحمد الدالاتي، الذي يشغل حالياً منصب محافظ القنيطرة.
المفارقة أن الدالاتي نفسه نفى عبر “الإخبارية السورية” وجود هذه الاجتماعات، لكنه لم يُنكر، في المقابل، وجود قنوات اتصال غير مباشرة أو وساطات إقليمية. النفي السوري الرسمي، المتوقّع سياسياً، لا ينفي واقعاً جديداً يتم التشكل من خلف الكواليس، في ظل وساطة إماراتية نشطة، ودور فرنسي بدا واضحاً خلال زيارة الشرع إلى باريس في بداية مايو، حيث أشار ضمنياً إلى “إمكانية تهدئة شاملة تحفظ السيادة وتعيد الأمن للجنوب السوري”.
تعامل تل أبيب مع سوريا ما بعد الأسد لا يبدو قائماً على معادلات الماضي. إسرائيل لم تعد تنظر إلى دمشق كعدو مباشر وإنما كمساحة رخوة تحتاج إلى إدارة أمنية دقيقة، في ظل مخاوفها من تمدد إيران وحزب الله، ورغبتها في فرض ترتيبات حدودية طويلة الأمد. من هنا، فإن المحادثات – سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة – لا تهدف في هذه المرحلة إلى التطبيع أو الاعتراف، بل إلى تثبيت خطوط أمنية وردعية على الأرض، قد تؤسس لاحقاً لواقع سياسي مختلف.
ما يحدث في سوريا اليوم لا يمكن فصله عن السياق الإقليمي الأكبر. مع انشغال واشنطن بملفات دولية متعددة، وارتباك المشهد العربي في التعامل مع مرحلة ما بعد الأسد، يبدو أن إسرائيل تسعى لإعادة رسم خريطة الجنوب السوري بما يخدم مصالحها الأمنية، بينما تسعى دمشق إلى احتواء التصعيد وخلق توازن جديد يحفظ ما تبقى من الدولة، ويعيد فتح الباب أمام شراكات دولية تساعدها في تجاوز آثار العقد الدموي الماضي.
يبقى السؤال معلقاً: هل تذهب سوريا الجديدة نحو مسار سلام حقيقي مع إسرائيل، أم أن ما يحدث لا يعدو كونه هدنة تكتيكية فرضها واقع هش؟ الثابت الوحيد حتى الآن هو أن مقاربة الصراع السوري – الإسرائيلي لم تعد كما كانت، وأن خطوط التواصل باتت تمر من بوابات كانت حتى وقت قريب مغلقة تماماً.