في قلب المؤسسة التشريعية الإسرائيلية، يتكرّس خطاب متطرف تجاه غزة لم يعد يُعتبر شذوذاً عن القاعدة بل جزءاً من التيار السائد، كما أظهر القرار الأخير للجنة الآداب في الكنيست. ففي الوقت الذي يُحاكم فيه العالم المجازر والانتهاكات التي تطال المدنيين الفلسطينيين، تُبرَّر في أروقة البرلمان الإسرائيلي دعوات صريحة لإحراق غزة وإبادة سكانها، تحت ذريعة “حرية التعبير” أو “الدفاع عن النفس”.
حرق غزة
قرار اللجنة بعدم معاقبة النائب نيسيم فاتوري، رغم تصريحه العلني عبر منصة “إكس” بالدعوة إلى “حرق غزة”، يكشف خللاً عميقاً في البنية الأخلاقية والسياسية للمؤسسة البرلمانية الإسرائيلية. فالبيان الذي خلص إلى أن التصريحات “غير لائقة” لكنها لا تنتهك قواعد الأخلاق، يعكس تواطؤاً مؤسسياً مع هذا النوع من الخطاب، وتطبيعاً مقلقاً للفاشية اللفظية التي باتت تجد لنفسها مكاناً مريحاً داخل بنية السلطة.
في منطق المؤسسات الديمقراطية، يفترض بالبرلمانات أن تكون حاميةً لكرامة الإنسان، ضامنة لحقوق الأقليات، رافضةً للتحريض العنيف. لكن ما يحدث في الكنيست الإسرائيلي، منذ سنوات وبشكل أكثر حدّة بعد هجوم 7 أكتوبر، يشير إلى انحراف خطير عن هذه المبادئ، حيث يُكافأ المحرّض، ويُدان الناقد.
ازدواجية المعايير داخل الكنيست
النائب فاتوري لم يكتفِ بتصريح عابر، بل كرّر تمسكه بكلامه في أكثر من مناسبة، وقال علناً إنه لا يرى “أي أبرياء” في غزة، في تبرير سافر لتدمير ممنهج لا يميز بين مقاتل ومدني، بين منزل ومخبأ. هذا النمط من التفكير، الذي يُسقط “البراءة” عن جماعة بأكملها، هو ما يُمهّد الطريق لارتكاب جرائم جماعية باسم “الأمن القومي”. إنه خطاب الإبادة في أنقى صوره، يُقدَّم بلسان مشرّع داخل برلمان يُفترض أنه يمثل سلطة مدنية.
المفارقة القاتلة أن النائب العربي عوفر كاسيف، حين وصف الحرب على غزة بأنها جريمة حرب، عوقب بالإبعاد ستة أشهر، فقط لأنه قال ما يتداوله العالم الحقوقي والإنساني كل يوم. هذا التباين الفجّ في المعايير يفضح ليس فقط ازدواجية المعايير داخل الكنيست، بل يكشف عن تغلغل تيارات فاشية تنظر للفلسطينيين باعتبارهم عبئاً يجب التخلص منه لا شعباً له حقوق ووجود.
المستشارة القضائية للحكومة نفسها حذّرت من أن مثل هذه التصريحات قد ترقى إلى جرائم تحريض، لكنها لم تُفعّل أي أدوات قانونية فعلية للمحاسبة. هذا التقاعس المؤسسي ليس بريئاً، بل هو جزء من منظومة غضّ النظر عن التطرف ما دام يخدم خطاب الدولة العنيف تجاه الفلسطينيين.
ثقافة الكراهية
عندما يصبح النائب الداعي للإبادة نائباً لرئيس الكنيست، فهذا لا يعكس فقط أزمة سياسية، بل أزمة قيمية وأخلاقية تضرب في عمق المجتمع الإسرائيلي، وتدل على مدى انزلاق مؤسسات الحكم نحو تبني الرؤية الصفرية التي تنكر وجود الآخر، وتبرر سحقه بأي وسيلة.
هذا الخطاب لا يُهدد فقط الفلسطينيين في غزة، بل يُقوّض أي أمل في التعايش، ويُغذّي ثقافة كراهية تنعكس في السياسة، والتعليم، والإعلام، وحتى في قرارات الحرب والسلم. وما لم يتم لجم هذه النزعة من الداخل، فإن إسرائيل ليست فقط بصدد تدمير غزة، بل أيضاً تدمير ما تبقى من صورتها كدولة تحترم القانون الدولي.