الحرب الإسرائيلية على غزة، التي تُعدّ الأطول والأكثر دموية في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تركت وراءها مأساة بشرية هائلة، لا تقتصر على الأرقام الرسمية المعلنة، بل تمتد إلى نطاق غير مرئي، يصعب حتى الآن قياسه بدقة. التقرير الذي نشرته مجلة “إيكونوميست” استنادًا إلى دراسة من “لانسيت”، يسلط الضوء على احتمال أن تكون الحصيلة الفعلية للشهداء أعلى بكثير مما تعلنه وزارة الصحة في غزة، والتي قدرت عدد الضحايا حتى 5 مايو 2024 بنحو 52,615 شهيدًا.
دمار المؤسسات التوثيقية
هذه الأرقام، رغم ضخامتها، قد لا تعكس الصورة الكاملة لحجم الكارثة. إذ توصل الباحثون إلى أن العدد الحقيقي قد يتجاوز هذا الرقم بنسبة تتراوح بين 46% و107%. وبتطبيق هذا النطاق، فإن عدد الشهداء قد يصل إلى ما بين 77 ألفًا و109 آلاف شخص، أي ما يعادل نحو 5% من سكان غزة قبل الحرب. وهذه النسبة تعني أن واحدًا من كل عشرين فلسطينيًا في غزة قد فقد حياته خلال هذا العدوان، وهو رقم مروّع بكل المقاييس الإنسانية والسياسية.
أحد الجوانب المهمة في هذه الدراسة هو محاولة تجاوز الإحصاءات التقليدية بالاعتماد على تحليل قواعد بيانات متعددة، بما في ذلك بيانات مستشفيات، واستبيانات أسرية، ومعلومات منشورة على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تم توثيق أسماء وأعمار وصور عدد كبير من الشهداء. غير أن هذه الجهود، رغم شموليتها، لا تزال تواجه تحديًا كبيرًا يتمثل في غياب المؤسسات التوثيقية على الأرض بسبب الدمار الهائل، والانهيار الشامل للنظام الصحي، ما يجعل الكثير من الضحايا خارج نطاق الرصد الرسمي.
شهداء الظل
هناك أيضًا بُعد إضافي يزيد من تعقيد المشهد، وهو الخسائر غير المباشرة التي يصعب حصرها. آلاف الأشخاص، وربما عشرات الآلاف، توفوا أو سيلقون حتفهم نتيجة تداعيات الحرب، وليس بسبب القصف المباشر، مثل انهيار المنظومة الطبية، نقص الأدوية، انعدام الرعاية الصحية، المجاعة، وغياب المأوى. هذه الفئة من الضحايا تُعدّ “شهداء الظل” الذين لا تظهر أسماؤهم في القوائم الرسمية، ولكنهم يمثلون مأساة موازية تتطلب اعترافًا وتوثيقًا.
في السياق السياسي والدعائي، هناك أيضًا جدل دائم حول ما إذا كانت الإحصاءات من غزة تُبالغ أو تُقلّل من الخسائر لأغراض سياسية. إسرائيل تدّعي أن وزارة الصحة لا تميز بين المدنيين والمقاتلين، وقدّرت أن 20 ألفًا من الضحايا ينتمون إلى فصائل المقاومة. لكن حتى مع أخذ هذا التقدير بعين الاعتبار، يبقى عدد الشهداء المدنيين هائلًا، ويشكّل انتهاكًا واضحًا لقوانين الحرب ومبادئ التناسب.
فشل المجتمع الدولي
ما تُظهره هذه التقديرات المتفاوتة هو أن هناك فجوة كبيرة بين ما يُوثق رسميًا وبين ما يجري فعليًا على الأرض. ومع استمرار تدمير المؤسسات الصحية، وصعوبة الوصول إلى مناطق القصف، واستمرار الحصار، فإن الرقم الحقيقي لضحايا غزة سيظل مفقودًا في الوقت الحاضر، وربما لسنوات طويلة قادمة.
لكن ما لا يمكن إنكاره هو أن الكارثة الإنسانية في غزة أكبر بكثير من أن تُختصر في رقم. إنها جرح مفتوح في الوعي الإنساني، وستظل شاهدة على فشل المجتمع الدولي في حماية المدنيين، وعلى الثمن الباهظ الذي دفعه شعب بأكمله مقابل صمته.