في غزة، حيث تتقاطع الحياة والموت في كل زاوية، ويمتزج الجوع برائحة الدم، لم تعد الشهادة قادمة من ساحات القتال فقط، بل أصبحت تُحصد على أبواب مخازن الطحين، وفي طوابير الانتظار التي تظللها طائرات القصف. هناك، عند نقطة توزيع مساعدات، وُلدت صورة ليست كباقي الصور، بل شهادة دامغة على أن الخبز في غزة بات أغلى من الروح.
رغيف خبز ثمن حياة شاب
شاب نحيل، جسده بالكاد يحتفظ بما تبقى من لحم، ممدد على عربة معدنية مهترئة، لم تُصنع لنقل الموتى، بل لحمل أكياس الطحين التي تحوّلت إلى كنز يُقاتل من أجله الجائعون. لم يكن في الصورة أكوام دقيق، بل كان هو ذاته الكيس المنهك، المحمّل بوجع شعبٍ يتآكله الحصار، والموت، والصمت العالمي القاتل.
خرج ذلك الشاب من منزله المتآكل، ربما ودّع والدته بنظرة مطمئنة، وربما وعد أخاه الصغير برغيف خبز إن طال الوقوف، أو أخبر شقيقته أنه سيعود ومعه بعض الأمل. لم يكن في باله أن خطوته تلك هي الأخيرة، وأنه لن يعود إلا ممددًا، ملفوفًا بالقهر، محمولًا على عربة استخدمت ذات يوم لحمل الدقيق، فصار هو الطحين والعنوان.
لم يكن هذا الشهيد استثناءً، بل هو صورة مكرّرة لعشرات، بل لمئات من القصص التي لا تُروى. أجساد تسقط جوعًا أو رصاصًا، بينما تحوّل رغيف الخبز إلى فخ قاتل، تصنعه السياسات العالمية وترعاه صواريخ الاحتلال. هناك حيث تقف القلوب قبل الأقدام في طوابير الخبز، أصبح الخروج من المنزل مخاطرة، والعودة مسألة حظ.
مصيدة الخبز
المشهد الموجع لم يكن بحاجة لتعليق: جسد مرهق، عيون دامعة، نساء تنحب، وأطفال لا يفهمون لماذا يعود أحباؤهم جثثًا ملفوفة بلا أكفان، بل بأكياس المساعدات التي لم تصل. الحصار ليس فقط على الغذاء، بل على الحياة نفسها، والموت لا يطرق باب غزة، بل يدخلها علنًا، على مرأى العالم كله، دون أن يتحرّك ضمير، أو تهتز إنسانية.
هذا الشاب الشهيد لم يكن يحمل سلاحًا، لم يكن في نفق، ولا في ساحة معركة، كان فقط يبحث عن لقمة، عن حياة، عن بصيص كرامة. لكنه، كما المئات غيره، عاد شهيدًا لا في معركة، بل في رحلة بائسة إلى “مصيدة الخبز”، حيث تساوت المساعدات بالقنابل، وصار الخبز ختمًا للشهادة.
المساعدات فخاخ للموت
هكذا أصبحت غزة، حيث تتحول المساعدات إلى فخاخ، والموت إلى يوميّات، والخروج من المنزل يحتاج إلى وصية، والعودة مجرد احتمال. وفي ظل هذا المشهد، لم تعد صورة الشهيد على العربة استثناءً، بل صارت رمزًا لمدينة يحاصرها العالم، ويشاهد نزيفها دون أن يحرّك ساكنًا.
أي إنسانية هذه، التي ترى الشهيد محمولًا على عربة طحين، ولا تنكسر؟ وأي عالمٍ هذا، الذي يغلف القتل بورق المساعدات، ويصمت؟ غزة لا تموت فقط تحت القصف، بل تموت كل يوم من الجوع، من الخذلان، ومن الصور التي لا تحتاج تعليقًا، لأن صمتها أبلغ من كل كلام.