تسلّط شهادة الصحافي الإسرائيلي نير حسون، وما نشرته صحيفة “هآرتس”، الضوء على تحوّل داخلي متزايد داخل بعض الأوساط الإسرائيلية التي بدأت تطرح تساؤلات أخلاقية وإنسانية عميقة حول ما يجري في قطاع غزة، خاصة بعد أشهر من الحرب المتواصلة التي خلّفت دمارًا هائلًا وخسائر بشرية مهولة في صفوف المدنيين الفلسطينيين.
أوامر تنتهك صراحة القانون الدولي
التقرير الذي كشف فيه حسون عن شهادات مباشرة لجنود وضباط إسرائيليين يخدمون في غزة، يمثل اختراقًا نادرًا لجدار الصمت الإعلامي الإسرائيلي، حيث اعترف الجنود بأنهم يُجبرون على تنفيذ أوامر تنتهك صراحة القانون الدولي الإنساني، من خلال استهداف المدنيين، وعدم التفريق بين مقاوم وأبرياء. هذه الشهادات تؤكد أن ما يجري في غزة لم يعد مجرد “أخطاء فردية”، بل سياسة عسكرية ممنهجة، تتخذ من الحرب وسيلة للتدمير الشامل دون أهداف سياسية واضحة أو أخلاقية.
ما قاله حسون عن حجم الدمار في مدينة رفح، ومقارنته بهيروشيما بعد القنبلة النووية، يعكس صدمة حقيقية في الضمير الإنساني. فحين تصبح حرب “تقليدية” أكثر تدميرًا من سلاح دمار شامل كالقنبلة النووية، فإن ذلك يكشف ليس فقط عن شدة القصف والتخريب، بل عن انعدام أي ضوابط أخلاقية أو إنسانية تحكم سلوك القوات العسكرية على الأرض.
إسرائيل تتجاهل التقارير الدولية
رغم التهديدات التي يتعرض لها حسون من أوساط يمينية متطرفة، فإنه أصرّ على المضي في نشر الحقيقة، معتبرًا أن الصمت تواطؤ، وأن المسؤولية الأخلاقية للإعلام تفرض عليه فضح ما يُرتكب من جرائم، خاصة في ظل تغطية إسرائيلية رسمية تتجاهل الأرقام والمشاهد والصور التي توثّق مأساة قطاع غزة.
ما يزيد من خطورة هذا المشهد هو تجاهل القيادة السياسية الإسرائيلية لتقارير المحكمة الجنائية الدولية، التي طالبت بوقف العمليات العسكرية في رفح، ثم عادت لتؤكد ذلك في قرار آخر أكثر وضوحًا، دون أن تلتزم تل أبيب. هذا التحدي الصريح للقانون الدولي يُفاقم من عزلتها الأخلاقية على المستوى العالمي، ويزيد من الضغوط على شركائها الدوليين، خاصة الولايات المتحدة، التي بات يُنظر إلى دعمها العسكري والسياسي كجزء من المشكلة.
في هذا السياق، جاءت افتتاحية صحيفة “هآرتس” الأخيرة لتعبّر عن يقظة ضمير متأخرة داخل بعض النخب الإسرائيلية. حين تقول الصحيفة: “كل شيء في غزة يصرخ لوقف الحرب”، فإنها تعكس إدراكًا داخليًا بأن الاستمرار في الحرب بات عبثيًا، وأن استمرار سفك الدماء لا يخدم أي غاية، بل يدمر مستقبل الطرفين، ويورّث أجيالًا جديدة من الكراهية والعنف والدمار.
قسوة الحرب
لكن التحدي الأكبر لا يزال في الداخل الإسرائيلي، حيث يواجه كل صوت نقدي، كالذي مثله حسون، بالتحريض والشيطنة. وهذا يعكس حالة من الإنكار المجتمعي الواسع للحقيقة، ورغبة في الهروب من المواجهة الأخلاقية مع الذات. ورغم ذلك، فإن ظهور مثل هذه الأصوات، حتى وإن كانت محدودة، يحمل بارقة أمل بأن سردية الحرب المطلقة بدأت تتصدع، وأن الرأي العام قد يبدأ، ولو ببطء، في طرح السؤال الصعب: “لماذا نُحارب؟ ولأجل ماذا يُقتل هذا الكم الهائل من الأبرياء؟”
التقرير لا يكشف فقط عن قسوة الحرب، بل عن تصدع داخلي في الجبهة التي كانت حتى وقت قريب تُجمع على شرعية العدوان. وهذا التصدع قد يمثل بداية تحول حقيقي في الوعي، خاصة حين يُجبر الصحافي على قول الحقيقة لا بدافع الانحياز، بل بدافع ضمير لا يقبل التواطؤ على المذبحة.