عاد ملف التطبيع إلى الواجهة الليبية مجددًا، بعد أن كشف الصحفي الليبي محمود المصراتي، المعروف بقربه من القيادة العسكرية في شرق البلاد، عن تفاصيل مثيرة تتعلق بلقاءات جمعت صدام حفتر، نجل اللواء المتقاعد خليفة حفتر، بمسؤولين من جهاز الموساد الإسرائيلي. ووفق المصراتي، فإن صدام رفض عرضًا بالتعاون مع إسرائيل للوصول إلى الحكم مقابل تنحي والده، إلا أن مجرد حدوث اللقاء يكفي لإثارة موجة من الجدل الحاد حول الدوافع والأهداف والتداعيات.
تصريحات المصراتي، التي جاءت بعد سنوات من صمت مطبق، أعادت للأذهان ما نشرته صحيفة “هآرتس” الإسرائيلية عام 2021 بشأن زيارة سرية قام بها صدام حفتر إلى تل أبيب، وهي تسريبات قوبلت حينها بالتشكيك والإنكار من أنصار القيادة العامة شرق ليبيا. واليوم، يجد هؤلاء أنفسهم أمام اعتراف صريح من داخل الدائرة الإعلامية المحيطة بحفتر، ما جعل بعض المتابعين يتحدثون عن “تخابر مع الموساد” لا يمكن التستر عليه تحت أي مبرر.
اللافت أن هذه التطورات جاءت في خضم العدوان الإسرائيلي المستمر على غزة، ما أضفى على القضية بعدًا أخلاقيًا إضافيًا، وزاد من حساسية الموضوع لدى الرأي العام الليبي، الذي لم ينس بعد الضجة التي رافقت لقاء وزيرة الخارجية المقالة نجلاء المنقوش مع نظيرها الإسرائيلي في روما. ورغم تأكيد المنقوش لاحقًا أن اللقاء لم يكن له أي علاقة بالتطبيع، بل تم بتكليف من رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة لمناقشة ملفات تخص أمن البحر المتوسط، إلا أن الشارع الليبي لم يرحمها، والإعلام المقرب من الرجمة صوّرها آنذاك كرمز للخيانة، ما عجّل بإقالتها.
مفارقة المشهد أن ما اعتُبر “زلزالًا سياسيًا” حين تعلق الأمر بمنقوش، لم يُقابل برد فعل مماثل عندما كشفت العلاقة بين صدام حفتر والموساد. غاب التنديد، واختفى الغضب، بل إن إعلام الرجمة التزم الصمت. هذا التناقض الصارخ في ردود الأفعال دفع كثيرين إلى التساؤل عما إذا كان الموقف من التطبيع مبدئيًا، أم أنه يخضع لمعادلات الولاء والخصومة. هل التطبيع خط أحمر حقيقي أم مجرد أداة سياسية لتصفية الحسابات؟
ورغم أن المصراتي أشار إلى رفض صدام لحصوله على دعم إسرائيلي مقابل تنحية والده، فإن مجرد القبول بعقد الاجتماع مع جهاز استخباراتي تابع لدولة تحتل أراضي عربية وتشن حربًا على غزة، يُعد في ذاته خطوة تطبيعية. وربما لا يختلف ذلك كثيرًا – في نظر كثير من الليبيين – عن لقاء المنقوش مع كوهين، الذي تم تقديمه كحادث عابر، لكنه كلفها منصبها وأشعل موجة من الغضب الشعبي.
تزامنًا مع هذه الاعترافات، نشرت وسائل إعلام دولية تقارير عن مقترحات طرحت خلال إدارة دونالد ترامب، من بينها ترحيل الفلسطينيين من غزة إلى جنوب ليبيا، وهو سيناريو أثار قلقًا عميقًا في الأوساط الليبية. ومع رفض البرلمان الليبي مؤخرًا لأي فكرة لاستقبال الفلسطينيين المهجرين على أراضيه، تزداد الشكوك حول ما إذا كان هناك بالفعل خط تفاوضي غير معلن بين بعض الأطراف الليبية وإسرائيل، أو ما إذا كان الكشف عن هذه التفاصيل مجرد مناورة سياسية تهدف إلى إعادة تشكيل موازين القوة داخل المعسكر الواحد.
في السياق ذاته، بدا لافتًا تزامن اعترافات المصراتي مع عودة نجلاء المنقوش إلى الواجهة عبر مقابلة حصرية مع منصة “أثير” التابعة للجزيرة، حيث كشفت أن لقائها مع كوهين تم بتكليف مباشر من رئيس الحكومة، وأنها كانت مكبلة سياسيًا ومنعت من الدفاع عن نفسها، في وقت كان فيه الإعلام الرسمي يتعمد شيطنتها. وأكدت المنقوش أن هدف الاجتماع لم يكن التطبيع، بل مناقشة قضايا استراتيجية مثل ملف الغاز والحدود البحرية في شرق المتوسط. وأشارت إلى أنها غادرت طرابلس بأمر أمني بناء على تعليمات من الحكومة، وأن عودتها تأخرت لأسباب سياسية، وليس لأنها كانت هاربة من المحاسبة.
في تحليل أعمق، يتضح أن مسألة التطبيع في الحالة الليبية تحولت من قضية وطنية إلى ورقة سياسية تُستخدم حسب مقتضى الحال. ففي ظل انقسام السلطة بين شرق وغرب البلاد، وتعدد مراكز النفوذ، وتضارب الأجندات الإقليمية والدولية، أصبحت القضايا السيادية تُدار بمنطق الفعل ورد الفعل، وليس وفق رؤية استراتيجية تنطلق من ثوابت وطنية وموقف موحد. ولعل هذا ما يفسر كيف يمكن لقضية واحدة أن تُطيح بوزيرة في الغرب، بينما تمر مرور الكرام في الشرق.
إن ما يجري حاليًا يضعف مصداقية الخطاب الوطني ويؤسس لحالة من الاستسهال في التعامل مع قضايا تتعلق بالهوية والانتماء والموقف من الاحتلال الإسرائيلي. فالشعب الليبي، رغم معاناته الطويلة من الحروب والانقسامات، لا يزال يحتفظ بثوابت واضحة تجاه القضية الفلسطينية، وهو ما ظهر جليًا في ردود الفعل الشعبية الرافضة لأي تقارب مع إسرائيل، سواء أكان معلنًا أو سريًا.
وفي ظل كل هذه المعطيات، يبقى السؤال المحوري: هل ما زال التطبيع مع إسرائيل يُعد خطًا أحمر لدى النخب الليبية، أم أن تغير التوازنات الإقليمية والدولية بات يفرض مسارات جديدة حتى لو تعارضت مع الإرادة الشعبية؟ وهل يمكن أن تعود ليبيا، رغم كل ما تمر به، لتكون جزءًا من محور عربي يعيد الاعتبار للقضية الفلسطينية، أم أنها ستُساق في طريق التطبيع التدريجي من خلال نوافذ خلفية؟ الإجابة عن هذه الأسئلة لن تتضح إلا عندما تُحسم المعركة بين الانتهازية السياسية والضمير الوطني.