في غزة، حيث الحرب لم تعد استثناء بل واقعًا يوميًا، يدفع الأطفال الثمن الأفدح لحصار خانق وعدوان مستمر، وسط صمت دولي ثقيل. لم تعد صور المجازر وحدها تختصر مأساتهم، بل بات الجوع وسوء التغذية وجهًا آخر للموت، أكثر بطئًا وفتكًا.
أطفال يموتون في حضن أمهاتهم، ليس من القنابل، بل من نقص الحليب، ومن فراغ موائدهم ومن شلل المستشفيات المحاصرة.
إنه جيل بأكمله يولد محاصَرًا، يكبر على أصوات الطائرات، وينام جائعًا، ويستيقظ على خبر استشهاد شقيق أو فقدان صديق. مأساة الأطفال في غزة لم تعد مجرد أرقام – كأن يُقال إن 66 طفلًا قضوا بسبب الجوع – بل هي قصص حقيقية، بوجوه وأسماء، تموت كل يوم مرتين: مرة من قسوة الاحتلال، ومرة من خذلان العالم.
تُغلق المعابر، وتُمنع المساعدات، ويُحاصر الغذاء، يتحوّل الجوع إلى سلاح حرب، ويصبح موت الأطفال نتيجة مباشرة لسياسة ممنهجة تُمعن في قتل الحياة قبل أن تنبت. مأساة غزة اليوم ليست فقط في الحصار، بل في تحوّل الجوع إلى مشهد يومي مألوف، لا يثير سوى بيانات إدانة خجولة، سرعان ما تُنسى.
ونرصد من واقع المعاناة بعض القصص الإنسانية، التي تعكس مأساة الأمهات والأطفال في غزة:
أم محمد.. قلب مكسور في مخيم النصيرات
لم تكن تعلم أم محمد أن طفلها الرضيع، يزن، الذي لم يُكمل عامه الأول، سيفارقها بهذه السرعة، لا بسبب مرضٍ عضال أو خطأ طبي، بل فقط لأنه لم يجد ما يسد به جوعه. منذ أسابيع، كانت تبحث عن عبوة حليب في كل مكان داخل مخيم النصيرات، دون جدوى. كانت ترضعه بما تبقّى من فتات الخبز المنقوع في الماء، وتواسيه بكلمات لم تعد تملك قوتها أمام بكائه المتواصل.
في يومه الأخير، نام يزن دون أن يبكي. حسبته غافياً، لكنه لم يصحُ مجددًا. حاول المسعفون إنعاشه، لكن جسده الصغير لم يحتمل. جلست أم محمد عند رأسه، ترتجف، وتهمس: “سامحني، يا يزن، لم أجد لك حليبًا”.
والد ليان.. شهادة موت صادرة من الحصار
في أحد أزقة خان يونس، يروي والد الطفلة ليان، ذات العامين، كيف بدأ جسدها يذبل أمام عينيه. كانت ليان تحب اللعب، تركض وتضحك رغم الحرب، لكن في الأسابيع الأخيرة تراجع نشاطها، ثم توقفت عن الوقوف، ثم عن الكلام، ثم عن البكاء. بحث والدها في كل زاوية عن علاج، عن غذاء، عن مستشفى يقبل استقبالها، لكن الطرق كانت مغلقة، والمعابر مقفلة، والمخازن فارغة.
يقول: “حملتها إلى المستشفى سيرًا على الأقدام، ولم تكن هناك أسرّة، فأعطونا كرتونة وضعناها تحت رأسها… وتوفيت ليان قبل أن يأتي دورها”. حين سُئل إن كان يشعر بالغضب، أجاب: “أشعر بالهزيمة… نحن نهزم أمام أطفالنا، لأننا لا نستطيع إنقاذهم”.
بيت من الصمت بعد رحيل جود
في بيت صغير بجباليا، تخيم الصمت منذ رحيل جود، الطفل ذو الثلاثة أعوام، بعد معاناة طويلة مع سوء التغذية الحاد. والدته، التي كانت تعمل ممرضة قبل الحرب، أدركت مبكرًا أن وضعه يتدهور. حاولت استخدام معرفتها القليلة لإنقاذه، خلطت المحاليل بمواد متوفرة في البيت، وأعدّت له وجبات بسيطة من العدس المطحون والماء.
لكن جسد جود الضعيف لم يحتمل أكثر. في يومه الأخير، طلب منها أن تحمله، فاحتضنته حتى توقف قلبه الصغير. منذ رحيله، لا صوت في البيت. حتى الأم، التي كانت قوية طوال الأشهر الماضية، صارت صامتة. تقول جارتها: “جود مات من الجوع، لكن والدته ماتت معه، كل يوم قليلاً”.
شقيق الطفل رامي.. أنا الآن الأخ الوحيد
في مستشفى الشفاء بغزة، كان الطفل معاذ (10 أعوام) يقف بجوار سرير أخيه رامي، الذي كان يعاني من هزال شديد. لم يكن معاذ يفهم لماذا أصبح جسد شقيقه نحيلًا بهذا الشكل، ولماذا لا يستطيع النهوض أو الضحك كما في السابق. في كل مرة كانوا يجلبون له حساءً خفيفًا من عدس بالكاد يُرى فيه أي شيء، وكان رامي يقول “أنا شبعان”، رغم أن عينيه تقولان غير ذلك.
بعد أيام، مات رامي. لم يبكِ معاذ، بل قال بهدوء: “أنا الآن الأخ الوحيد… سأبقى حيًّا حتى أروي قصته”. أخذ يكتب بخط صغير في دفتر ممزق: “مات رامي من الجوع… مات لأن العالم كان مشغولاً”.