في زمن تتشابك فيه السياسة مع الإعلام، وتتشكل الرأي العام عبر “اللايك” و”الريتويت” أكثر من البيانات الرسمية، لم يعد تأثير الشخصيات العامة على مسار الأزمات العالمية مجرد فرضية، بل أصبح واقعًا ملموسًا. حالة «ميس رايتشل» — الشخصية الأميركية التي عُرفت بتعليم الأطفال على “يوتيوب” — تمثل نموذجًا حيًا لهذا التحوّل، حيث قررت الانتقال من عالم الطفولة البريء إلى ميدان القضايا الإنسانية الشائكة، وعلى رأسها مأساة أطفال غزة.
قرارها بالتحدث عن معاناة الفلسطينيين، لا سيما الأطفال، شكّل منعطفًا في صورتها العامة، لكنه أيضًا أحدث ضجيجًا غير مسبوق في منصات التواصل الأميركية، وربما تجاوز تلك الحدود ليصل صداه إلى أروقة السياسة. هذا التحول لم يكن فقط شخصيًا، بل عبّر عن ظاهرة أوسع: المشاهير كأدوات ضغط غير تقليدية على صناع القرار السياسي.
عاصفة من الاتهامات
في السياق الأميركي، حيث الدعم لإسرائيل راسخ سياسياً وإعلامياً، أي انحراف عن هذا الخط يُستقبل عادة بعاصفة من الاتهامات، تبدأ بـ”معاداة السامية” ولا تنتهي عند “ترويج دعاية إرهابية”. ورغم أن ميس رايتشل حرصت على توضيح أنها تدافع عن الأطفال “في كل مكان”، إلا أن مجرد تسليط الضوء على المعاناة الفلسطينية عُدّ خروجاً عن السردية المقبولة.
لكن الأهم من كل هذا، أن تأثيرها لم يقتصر على إثارة الجدل، بل بدأ يحرك المياه الراكدة. حملة التبرعات التي أطلقتها لصالح منظمة Save the Children، والتي جمعت عشرات الآلاف من الدولارات، برهنت أن هذا النوع من التضامن لا يقتصر على الشعارات، بل يمكن أن يتحول إلى دعم مالي وإنساني فعلي، وهذا بحد ذاته يخلق حالة من الضغط غير الرسمي على الحكومات.
انقسام المجتمع الأمريكي
الولايات المتحدة، التي تعيش انقسامًا داخليًا متزايدًا بشأن موقفها من الحرب في غزة، باتت تجد نفسها محاصرة ليس فقط من قبل الأصوات السياسية المعارضة، بل من قبل ملايين المتابعين والمؤثرين الذين يعيدون تشكيل الضمير الجمعي الأميركي، جيل TikTok وYouTube، الذي لم يعد يستهلك الأخبار من CNN أو Fox News، بل من حسابات من يتابعهم على منصات السوشيال ميديا.
وجود مؤثرين مثل ميس رايتشل، إلى جانب فنانين عالميين وطلبة جامعات ومقدمي برامج شهيرة، يوسّع من حجم الفضاء العام الذي يُنتقد فيه الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل. هؤلاء لا يملكون قرارات سياسية، لكنهم يُحرجون السياسيين أمام ناخبيهم، ويدفعون الإعلام التقليدي لمواكبة النقاشات الساخنة عبر الإنترنت، وهو ما يمكن أن يُترجم تدريجيًا إلى تغيير في الخطاب، وإن لم يكن فوريًا في السياسات.
في المقابل، تصاعدت محاولات كبح هذا التأثير، من خلال تهديدات بالتحقيق أو حملات تشويه، لكنها غالبًا ما تأتي بنتائج عكسية، إذ تُزيد من تعاطف الجمهور مع هؤلاء المؤثرين وتمنحهم مزيدًا من المصداقية.
تضاعف الضغط الشعبي
ما نراه الآن ليس تغييرًا في السياسات بالمعنى المباشر، بل هو تآكل للشرعية الأخلاقية للخطاب الرسمي الأميركي، وهذا التآكل بطيء لكنه خطير، لأنه يهيئ الأرض لتغيير أعمق في حال تغيّرت الإدارة السياسية أو تضاعف الضغط الشعبي.
وباختصار، يمكن القول إن تحركات المشاهير، رغم أنها لا تُملي القرار السياسي، لكنها تُشكل قوة رمزية تصنع تحولاً في المزاج الشعبي العالمي، وتخلق بيئة محرجة لأي دولة تدّعي الدفاع عن حقوق الإنسان بينما تصمت أمام صور أطفال يُنتشلون من تحت الركام.
وهذا الضغط الأخلاقي والمعنوي، المتعاظم بفعل الإعلام الجديد، قد لا يُوقف الحرب غدًا، لكنه يُسرّع في طرح سؤال لا يمكن تجاهله: “إلى متى يمكن لأي دولة أن تتجاهل هذا الصوت العالمي المتنامي من أجل أطفال غزة؟”