أثار نشر صورة لفتاة فرنسية يهودية تحمل صورة جندي إسرائيلي داخل معبد الغريبة في جزيرة جربة موجة استياء واسعة على مواقع التواصل الاجتماعي التونسية، وسط دعوات لعدم الزج بأماكن العبادة في الصراعات السياسية، والحفاظ على طابعها الروحي والديني البحت.
الصورة التي التقطتها وكالة “فرانس برس” خلال موسم حج الغريبة (11–18 مايو/أيار الجاري)، أظهرت الفتاة وهي تؤدي الصلاة داخل المعبد حاملة صورة الجندي الإسرائيلي “ران جفيلي”، الذي قُتل خلال عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى جانب شعارات تنتمي إلى حملة “أحضروهم إلى المنزل الآن”، التي تقودها عائلات الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في غزة.
ردود فعل غاضبة على مواقع التواصل
سرعان ما اجتاحت منصات التواصل تعليقات الغضب والاستنكار. واعتبر عدد من النشطاء أن الصورة تمثل “استفزازًا لمشاعر التونسيين”، في ظل حساسية القضية الفلسطينية وارتباطها العاطفي العميق بالرأي العام المحلي.
وتحوّلت الواقعة إلى مادة للنقاش العام بين من دعا إلى فتح تحقيق رسمي بشأن ما حدث داخل المعبد، ومن رأى أن الخطورة لا تكمن في الصورة فحسب، بل في ما اعتبروه “تطبيعًا ناعمًا” يتم تمريره تحت غطاء السياحة الدينية، ما يستدعي، حسب رأيهم، مراجعة تنظيم هذا الحدث بشكل شامل.
دعوات للفصل بين الدين والسياسة
في هذا السياق، دعا عدد من النشطاء والمنظمات التونسية إلى ضرورة الفصل بين الديانة اليهودية والمواقف السياسية الداعمة لإسرائيل. وقال وائل نوار، عضو “تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين”، في تصريح لصحيفة “القدس العربي”:
“هذه الصور التي شاهدناها في معبد الغريبة لعدد من الأسرى الصهاينة ومعها تعليقات داعمة لهؤلاء الأسرى ومعادية للمقاومة الفلسطينية، هي فضيحة أخرى تضاف لفضائح معبد الغريبة المتواصلة منذ سنوات”.
وأضاف نوار أن التنسيقية طالبت مرارًا بضرورة منع توظيف الزيارة الدينية في تمرير رسائل سياسية تتماهى مع الرواية الصهيونية، مؤكدًا احترامهم للديانة اليهودية كمكوّن من مكونات الهوية التونسية، لكنه شدد على أن “معبد الغريبة تحوّل إلى فضاء تُروج فيه مواقف تمس من مشاعر التونسيين ودعمهم التاريخي للقضية الفلسطينية”.
خلفيات حساسة ومناخ إقليمي مشحون
تأتي هذه الحادثة في مناخ إقليمي ودولي متوتر بسبب استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، وتصاعد التضامن الشعبي العربي مع الفلسطينيين في مواجهة الاحتلال. ومن ثمّ، فإن أي مؤشرات على التعاطف مع الجندي الإسرائيليين – حتى داخل أماكن عبادة غير إسلامية – تُقرأ في تونس وغيرها من دول المنطقة كإشارة سياسية غير محايدة.
وهو ما يفسر حجم الغضب الشعبي حيال الصورة، وخصوصًا أن معبد الغريبة يُعتبر رمزًا للتعايش الديني في تونس، ويستقطب آلاف الزوار اليهود من مختلف أنحاء العالم سنويًا.
المعبد في مرمى الانتقادات: إرث ديني أم ورقة تطبيع؟
على مدار السنوات الأخيرة، تعرّض معبد الغريبة لانتقادات متكررة، خاصة من قِبل جهات شعبية ومنظمات مناهضة للتطبيع مع إسرائيل، اعتبرت أن طابع الزيارة يتجاوز أحيانًا الحدّ الديني إلى ما يشبه “احتفالية سياسية” تُستثمر فيها رمزية المكان لتمرير رسائل ذات صبغة تطبيعية.
رغم تأكيد السلطات التونسية المستمر على أن الزيارة ذات طابع ديني وثقافي بحت، وأنها لا تخرج عن إطار حرية المعتقد وحماية التراث، إلا أن هذه التأكيدات لم تُقنع شريحة واسعة من التونسيين الذين يرون في بعض مظاهرها خلطًا غير مبرر بين الشعائر والمواقف السياسية، وخصوصًا حين يُرفع علم إسرائيل أو تُعرض صور جنودها داخل المكان.
غياب رسمي وتراخٍ حكومي؟
حتى كتابة هذا التقرير، لم تصدر عن السلطات التونسية أي بيانات رسمية تفسّر ما حدث أو توضح موقفها من الصور التي أثارت الجدل. هذا الصمت زاد من حدة الانتقادات، وفتح الباب أمام اتهامات للحكومة بالتراخي أو التغاضي عن تجاوزات تمس الخطوط الحمراء للسيادة الرمزية والوطنية في البلاد.
ويرى بعض المحللين أن غياب موقف حكومي واضح قد يُفسر على أنه قبول ضمني، أو في الحد الأدنى عجز عن السيطرة على ما يحدث داخل المعبد، وهو ما يثير تساؤلات حول من يتحكم في تنظيم الزيارة وحدود تدخل الدولة فيها.
نحو تنظيم جديد أم إنهاء الجدل؟
الحادثة الأخيرة قد تكون منعطفًا في علاقة الدولة التونسية بمعبد الغريبة. إذ تزداد الدعوات لإعادة تقييم طريقة تنظيم الحدث، وضبط ما يُسمح به داخل المعبد من رموز وشعارات، حفاظًا على حياده الديني أولًا، وعلى وحدة المجتمع التونسي الذي يتفق غالبًا على دعم فلسطين ورفض أي مظاهر تطبيع، ثانيًا.
وفي ظل تشابك الديني بالسياسي، يبدو أن مستقبل زيارة الغريبة بات مرهونًا بقدرة الدولة على استعادة الإشراف الكامل عليه وضمان خلوّه من الرسائل السياسية، خاصة تلك التي تُخالف وجدان غالبية الشعب التونسي.